قد لا تكونون من أهالي جبل اللويبدة؛ لكنه يعنيكم كأردنيين ـ خصوصا كعمّانيين ـ فهذه الفسحة من الياسمين والعمران التقليدي والتعددية الاجتماعية والثقافية، هي كنزٌ مدنيٌ للعاصمة والبلد.
جبل اللويبدة في قلب عمان هو بعض آخر ما بقي منها عمّانيا؛ على شارعين متوائمين على كتف التلّة، وفي تفرعاتهما وأزقتهما، كثافة عمرانية من الابداع الهندسي الحضاري للطبقة الوسطى الناشئة مع قيام الدولة،
الأسطح الحجرية التي تكاد تتكلم، مكسوة بما شئت من النباتات المنزلية، وسط كثافة شجيرات الياسمين، مسجد الشريعة الجميل والكنيسة التي تطلّ على السفح، أجمل البيوت والفلل البسيطة الجميلة والحلى المعمارية المبدعة، وأغلى الذكريات لكبارٍ من الموالاة والمعارضة، من السياسيين والأدباء، عاشوا وماتوا هنا، جبل الثقافة والمسرح والمتنزه ـ الذي صار مطعما! وكان ملعب الطفولة وساحة لشاي عصريات الصيف والناس ـ الجيرة والتهذيب والتجانس الاجتماعي الذي يجمع الأصول في بوتقة مدنيّة واحدة، الأمسيات في حدائق المنازل، والمشاوير الحرة في ساعة الفجر، والهدوء العميم، والتجذّر في المكان، والعلاقة، بالأدراج والسرفيس، مع وسط البلد، علاقة وجدان وامتداد وتواصل؛ الدكاكين المتنوعة الأغراض كأنك في بلدة مسوّرة ممفصلة / متصلة، تآلفت لتمنح ناسها كل ما يريدون سيرا على الأقدام.. و .. و .. ربما لن أنتهي إذا واصلتُ الكلام؛ لكن جبل اللويبدة هو نموذج عماني ، يساوي الحفاظ عليه، الحفاظ على روح عمان، ويمكن تقديمه كنموذج بلديّ للمجتمع المدني المأمول في البلاد.
جبل اللويبدة الآن، كعمران وثقافة ونموذج، على الحافّة؛ فإما يتم انقاذه وإما ينهار!
مرّ جبل اللويبدة بمرحلتين آذتاه في العمق؛ مرحلة الثمانينات حين هجرته أسر عديدة من أهله ـ لجبل اللويبدة أهل وليس مجرد سكان ـ وهبطت أسعار العقارات والإيجارات، مما سمح لفئات أقل تحضرا للتسرب إليه، ثم المرحلة الحالية، مرحلة هجمة المال والرأسمال على الجبل الذي ارتفعت أسعار عقاراته وشهد اقبالا على السكن فيه تلبيها الاسكانات؛ لقد أصبح منطقة استثمارية!
هناك مَن يريد اغلاق السفح ببنايات من ثماني طوابق، وهناك مَن يريد أن يشيد بناية من 9 طوابق على دوّار باريس الأنيق، في حركة لا تهدأ من تجارة العقارات ومشاريع الإسكانات، وما تفرضه من هدم البيوت والفلل واعدام الحدائق، لصالح الكونكريت البشع والمجمعات من 48 شقة في شارع غير معد لخدمة 48 منزلا اضافيا، وتمزيق النسيج الاجتماعي الثقافي للجبل، واغلاق منافذه، وشبابيكه الطبيعية على فضاء عمان.
احتجّ الأهالي، وصادف أن جاء إلى موقع أمين العاصمة، واحد من أهالي اللويبدة القدامى، ويتمتع بالحس المدني والجرأة في اتخاذ القرار، عقل بلتاجي؛ تعاون واعتبر جبل اللويبدة منطقة تراثية؛ مُنع فيها الهدم والبناء وحتى الصيانة إلا بموافقة دائرة التراث في الأمانة، وموافقة الأمين شخصيا.
خطوة مقدامة؛ لكن ضغوط الرأسمال تحت يافطة الاستثمار، ضغوط النوّاب، وضغوط مراكز القوى، تحاصر الأمين والأمانة، وهما، حتى الآن، صامدان؛ لكن انقاذ الجبل من هجمة الرأسمال ربما أصبحت تحتاج إلى قرار سياسي: هل تريدون مساحة حضارية خضراء، وسط غابة الاسمنت التي أغرقتم بها عمّان؟ هل تريدون أن يبقى في عمان حي يرمز للطبقة الوسطى المثقفة، وللثقافة؟ أم أننا على موعد مع انهيار آخر النماذج المدنية في عمان؟
كفّوا عن الضغوط! اخجلوا قليلا .. فخسارتنا في جبل اللويبدة، لا تعوّض بيئيا ووطنيا وثقافيا، ولن نسمح لكم بالمزيد من حصد الأموال على حساب الياسمين.
.. وهناك مَن يريد أن يحوّل جبل اللويبدة إلى شيء شبيه بشارع الرينبو والدوار الأول؛ كلا! هذه ليست عمان، ليس وجهها المدني العتيق؛ لديكم كل تلك المناطق الحديثة التي تصطف فيها المقاهي والمطاعم والبارات الخ الخ اتركوا لنا جبل اللويبدة الذي بدأ يزدحم بتجار السياحة الداخلية، وبمقاهٍ بلا ذوق تحتل الأرصفة والشوارع ومطاعم تترك وراءها أطنانا من مخلفاتها من النفايات، وتستقطب زحمة السير، كما تستقطب فئات اجتماعية لا تعرف ألق الحياة المدنية في جبل اللويبدة، ولا تهتم، وأسر زائرة تجد أن من حق أبنائها تخريب الشجر في ساحة باريس للهو ساعة، ذلك الشجر الذي نرعاه كل صباح!
هذه الفوضى في التراخيص المهنية، تتنازع المكان، بين المقاهي وبين محلات التصفية الأوروبية! وحتى الآن، رغم أن أمين عمان يستجيب للنداء، ليس هناك ما ومن يساعده على تصحيح الوضع النشاز تحت الضغوط المتنوعة الشرهة المتواصلة.
مخفر جبل اللويبدة جرى اغلاقه منذ وقت بعيد لأنه بلا عمل، نقطة الأمن ايضا أُغلقَتْ. لكن السنوات الأخيرة، جعلتنا نعيد الطلب بافتتاحها، وتمت الاستجابة، لكن ما يزال تنظيم المرور ومنع الاصطفافات العشوائية على جانبي الطريق والتعدّي المنتظم على الممنوعات المرورية و الدوران والالتفاف والتشحيط الخ، في غياب كامل لشرطة المرور.
ثم هناك البيوت المهجورة بانتظار البيع ، وقد تحولت إلى مزابل وأوكار، ومهددة بالانهيار، والأسوار والأرصفة التي هجرتها الصيانة، واستبد بها البخل وانعدام الذوق في اصلاح بعضها، ومواقف السيارات غير المرخصة او غير المسفلتة بلا أسوار ولا نظام!
ورغم أن رابطة الفنانين التشكيليين تقيم في جبل اللويبدة، فالجبل خال من تدخل الفن التشكيلي في مساحات عديدة يمكن ان تشغلها الجداريات؛ لا يوجد مال، فأين التطوّع؟
نأتي إلى الرفاق من الشبان اليساريين الذين يستمتعون بكتابة الشعارات على الأسوار الحجرية الجميلة! أيها الرفاق اليسارية حضارة وليست تخريبا للجمال؛ يمكنكم مثلا التفنن بجداريات على الجدران الاسمنتية فيما يُعرَف بالغرافيكي، الرأي والفن معا، بدلا من رشاشات البويا البشعة!
متنزه اللويبدة، اجمل متنزهات العاصمة، استولى عليه المتحف التشكيلي؟ فبأي حق تغدو الملكية العامة حكرا على أي مؤسسة؟ وبأي حق يُقام مطعم خمس نجوم على أرض عامة وبلا ترخيص؟
كلّه في جبل اللويبدة ممكن؛ فالحكومة غائبة والشرطة غائبة وافعل ما تريد وخالف وحين راجعت الأمانة الموقف كله، وبدأت خطة اصلاحية، بدأ الهجوم المضاد من فئات متنوعة من تحت ومن فوق؛
ما يشجع أن أمانة عمان بدأت تعمل، وتتشدد، لكنها تواجه حربا، والحق أن الأمين صامد، وهو ما يدفع نحو تحرك المجتمع المحلي، المعني أولا
بمبادرة فعاليات اجتماعية، وبحضور الأمين وفريق الأمانة، عُقد في نادي الأردن ( تأسس العام 1940) في جبل اللويبدة، اجتماع عام، انبثقت عنه هيئة هي ‘ مجلس المجتمع المدني في جبل اللويبدة’؛ هدفه الدفاع عن مدنية الجبل، والتصدي للزحف غير الحضاري، وهجمة الرأسمال على قلب عمان، والمحافظة على جبل اللويبدة كنموذج، وتطويره لكي يكون رمزا لعمان، ومثالا يُحتذى.
المطلوب اليوم…. قرار سياسي يدعم الجهود البلدية والأهلية، مالا وأنظمة وتعليمات وصدا لهجمات المستثمرين و’ النواب’ ومراكز النفوذ!