منذ مطلع الثمانينيات عملت, من دون كلل, على دراسة وفحص آلاف النصوص والوثائق والمواد الادبية والمقابلات والملاحظات حول البنية الاجتماعية الاردنية, تاريخها وتركيبها الداخلي وعلاقتها بالجوار ودورها المحلي والاقليمي.. الخ, في مسعى لبناء نظرية عامة حول التكوين الاجتماعي الاردني. ولم يتح لي, بعد, التفرغ لانجاز مشروع حياتي ذاك في مؤلف اساسي, لكنني انجزت, في الطريق, مئات النصوص الفرعية التي سجلت فيها حفرياتي التاريخية.لا ادعي, بالطبع, ان نظريتي حول التكوين الاجتماعي التاريخي الاردني القائمة على اصالة وضرورة الدولة الوطنية الاردنية, هي صحيحة تماما. فمن شروط النظرية العلمية ان تكون قابلة للنقض, وليس فقط للنقد. ولكنني الح على ان تأسيس هذا المجال النظري يشكل ضرورة تاريخية ليس فقط لبناء وازدهار ووحدة الدولة الاردنية, بل, ايضا, لتأصيل الفكر السياسي في البلاد, والقيام بمساهمة اردنية جدية في حركة التحرر العربية.
لقد عملت باخلاص, وحفزت اخرين على درس جوانب اخرى من تاريخ البنية الاجتماعية الاردنية, وساهمت في نشر العديد من الكتب التي تضيء بعض ملامح ذلك التاريخ, ولم اكن, بالطبع, انتظر اية مكافأة. فانا احاول, بالكاد, ان انجو من التهجمات.
لماذا اكتب حول ذلك الان? ألأنني ضجرت من التهجمات? كلا. ولكن لانني لاحظت امرا مقلقا هو ان تلك التهجمات- تحت شعارات »قومية« – تزداد عنفا كلما تصاعدت اخطار الهجمة الامريكية-الصهيونية على الكيان الاردني.
مسعاي لتنظير البنية الاردنية, ليس بدعة, وانما محاولة متواضعة حفزتها تجارب عربية كبيرة, مثل تجربة جمال حمدان, صاحب موسوعة »مصر, دراسة في عبقرية المكان« وتجربة اليسار اللبناني في قراءة البنية الاجتماعية اللبنانية, والجهود المثابرة في تأريخ وفهم المجتمعين العراقي والمغربي. ولن اضع, هنا, ببلوغرافيا بتلك التجارب, ولكنني اشير الى انها حظيت بالتقدير والاعتراف. ولعله من حقي ان اتساءل لماذا تنال الجهود الاردنية المماثلة, كل هذا العداء?
ان قسما كبيرا من النخبة العربية- والاردنية للاسف- واقع في شباك الايديولوجية المضادة للاردن. وللمفارقة, فان العديد من المثقفين العرب الذين يقبلون, بلا عناء, اصالة تكوينات عربية اقل شأنا من التكوين الاردني, يشهرون اسلحتهم, فقط, عندما يتعلق الامر بالاردن. ولعله ضرب من التواطؤ مع الصهيونية للخلاص من عبء القضية الفلسطينية. وقد شكل ذلك نوعا من الرهاب بالنسبة للمثقفين الاردنيين الذين ترسخت لدى بعضهم الكثير, عادة التبرؤ من الوطنية الاردنية لنيل الاعتراف بهم كمثقفين, وخصوصا كمعارضين. فالتقليد المترسخ هو المساواة بين المعارضة الجذرية وبين العداء للدولة الوطنية الاردنية وشرعيتها التاريخية.
وقد اصبح الخضوع لذلك الرهاب خطرا للغاية, فالاردن يحتاج اليوم الى جهود كل مثقفيه ومناضليه من اجل الاتحاد في مواجهة خطر محدق. وبالنسبة لي, اشد على جراحي واقول: استأذنكم بالدفاع عن بلدي!.
عن العرب اليوم.