ناهض حتّر
سأخصص هذه المقالة، لقراءة أخبار الصفحة الأولى من صحيفة أسبوعية تصدر في عمان. وأنا لا أقصد، بالطبع، الإساءة لهذه الصحيفة أو القائمين عليها، ولكنني وجدت هذه القراءة النقدية مغرية لتحليل الأنموذج الفكري للمعارضة القوموية–الإسلاموية.
أعلى يمين الصفحة، تحتل صورة كبيرة للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. والمانشيت الأول يقول: «اليوم … الذكرى 49 لقيام ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر». ولا أظنني أحتاج إلى الكثير من البراهين لأستنتج بأن هذا “المانشيت” يمثل خطأ مهنياً فاحشاً. فتذكر حدث تاريخي، مهما كان عظيماً، يُعالج في مقالة لا في “مانشيت” أول لا يخبرنا بشيء جديد، بل يعتبر القارئ غبياً إذ يعلمه بأن ثورة يوليو… كانت… بقيادة عبد الناصر!
أنا– شخصياً –أحبّ عبد الناصر. وهو حب لا تثلمه تحفظاتي النقدية العديدة على سياساته، ابتداءً من تشجيع عبادة الفرد، ومروراً بالاستبداد، وانتهاءً بخضوعه– وهو رجل الدولة المحنك– للديموغوجيين الذين استدرجوه إلى حرب مع إسرائيل (في حزيران 1967) بدون استعداد، ما أدى إلى مأساة ما زلنا نعيش فصولها تباعاً.
أنا أحب عبد الناصر لأن تجربته السياسية الأساسية تمحورت على الصراع مع الإمبريالية والصهيونية، ولأنه أحب الفقراء بكل وجدانه، وحاول أن يصنع من أجلهم شيئاً … إلّا أنني بالطبع لست مضطراً، بسبب هذا الحب، أن أكون “مواليا” للدولة المصرية، وخصوصاً أن السياسات المصرية بعد عبد الناصر، اتجهت عكس سياساته. ولكن القوميين الناصريين، يظلون، في الحقيقة، على ولائهم للدولة المصرية؛ ولذلك، فإن الصفحة الأولى– موضع الحديث– تبرز خبراً آخر يقول «السفارة المصرية بعمان تشيد بثورة يوليو وإنجازات عبد الناصر». ولا يتوقف العقل الناصري في فورة حماسته لبيان السفارة المصرية، ليسألها– على الأقل– عن مدى إخلاص القيادة المصرية الحالية للسياسات الناصرية؟!
أنا أحب عبد الناصر بالطبع، وأحب مصر، ولكنني أملك عقلاً شغوفاً بطرح الأسئلة لا غير… ثم إنني– كصحافي– لن أعمل من ذكرى يوليو “مانشيتاً”– حتى لو كنت ناصرياً مؤمناً متيماً بأم كلثوم والفول والطعمية– ولذلك، لسبب بسيط هو أنني… صحافي، وأعرف أن “المانشيت” له أصوله، ومن أصوله أن يكون إخبارياً، بل ومن زبدة الأخبار السيارة أو– بالنسبة للأسبوعيات– من زبدة التحليلات الخاصة الراهنة.
ومحرر الصفحة الأولى المعنية هو الآخر صحافي، بل وأستاذ ويعرف، إلّا أنه “مضطر” لاستخدام صورة عبد الناصر وذكراه في المانشيت الأول، لكي يمرر “مانشيته” الحقيقي، وهو– على سبعة أعمدة– يقول: «خالد مشعل يواصل رئاسة المكتب السياسي “لحماس” 4 سنوات قادمة» وإبراز هذا الخبر على هذا النحو المفرط بالحماس، جدير بالتأمل. إنها عبادة الفرد مرة أخرى. فالعقل القوموي لا يعرف العيش خارج إسار العبودية للزعماء. ولكن ما هي أهمية أن يواصل مشعل رئاسة المكتب السياسي “لحماس”؟ ولماذا تقوم قيادات “حماس” بالداخل بمهاتفة مشعل «مؤكدة اعتزازها بقيادته، ومنددة بالشائعات المغرضة ضده» ؟! وإذا كانت “حماس”– كما تقول الصحيفة نقلاً عن “مصدر…” -«محكومة بتقاليد مؤسسية راسخة» فما هي أهمية مشعل إذن، وما هي أهمية رئاسته للمكتب السياسي “لحماس”– ولفرحتنا وفرحة الجماهير العربية والإسلامية لمدة «4 سنوات قادمة»!
وما هي الشائعات المغرضة؟ هي أن مشعل يريد التخلي عن موقعه في قيادة “حماس”…. وذلك «بدعوى اعتزامه العودة إلى الأردن، تمسكاً منه بجنسيته الأردنية على حساب هويته التنظيمية». ها نحن قد فهمنا، إذن، سر المانشيت المتحمس… إنه على سبيل النكاية بالحكومة الأردنية. وهي، من وجهة نظري، تستأهل.
وعن المصدر… تنقل الصحيفة أن الأخ مشعل رغم اعتزازه بجنسيته الأردنية وإصراره على حقه بالعودة إلى الأردن [لاحظوا إلى الأردن] إلّا أنه سيبقى متمسكاً وملتزماً بمسؤولياته القيادية…
نترك قياديي “حماس” يؤكدون اعتزازهم «بقيادة مشعل الحكيمة» إلى يمين الصفحة، حيث عنوان خبر آخر: «كتائب شهداء الأقصى تلوح بوسائل قتالية غير مسبوقة» والسؤال هو لماذا تلوح بها ولا تستعملها؟ والجواب هو انها تخبئها إلى أن تجتاح القوات الإسرائيلية، مناطق السلطة الفلسطينية.
وحماسة الصحيفة القومية– الإسلامية لكتائب شهداء الأقصى الفتحاوية، تجعلنا نستنتج حرص الصحيفة على الوحدة الوطنية. فبغض النظر عن الخلافات والصراعات السياسية، فإن كل ما هو فلسطيني، هو عظيم. ولا تلاحظ الصحيفة ان كلام المصدر المقرب من “الكتائب…” هو نوع ألفناه طويلاً من ديموغوجيات وعنتريات بائسة. وليس من الضروري أن نكون قادة حكماء ومجاهدين كباراً، لكي نكتشف الفرق بين فكر مقاوم أصيل يمشي على استراتيجية قطيعة مع المحتلين وبين تهويش من طراز «الوسائل القتالية غير المسبوقة». ولنفرض أن هذا التهويش أخاف إسرائيل، ولم تغز مناطق السلطة! ماذا سيحدث غير العودة إلى مسار التعاون الأمني– السياسي بين غزة وتل أبيب؟ أهذا هو الهدف؟!
أسفل مانشيت مشعل، وصورته الحلوة، عنوان خبر على ثلاثة أعمدة، يقول: «”حقوق المواطن” تناشد أبو الراغب مجدداً وقف نزع الجنسية عن المواطنين وأطفالهم» ونفهم من هذا العنوان أن الحكومة الأردنية تقف في الشارع وتنزع الجنسيات من المواطنين… ولكن، في صلب الخبر، نكتشف بأن الأمر يتعلق بـ 21 “مواطناً” فلسطينياً، ربما فقدوا الجنسية الأردنية، بسبب حصولهم أو حصول ذويهم على جنسيات أجنبية! ونصّ الخبر لا يوضح التفاصيل، ولا يضع القارئ في صورة الحدث. ويبدو أن ذلك غير مطلوب. فهناك قراء جاهزون لفهم “الرسالة” بدون تفاصيل… يعني كأنها ترجمة للقول “وين الربع– هناك هجمة على الفلسطينيين!”
في السياق نفسه، خبر: «إسقاط الجنسية الأردنية عن أسعد عبد الرحمن وأسرته». والصحيفة تبدو أكثر حماسة من الوزير الفلسطيني السابق الذي أخفى الخبر عن الصحافة– كرماً منه– وذهب– بهذا الكرم السياسي– إلى وزارة الداخلية. «بهدف إقناعها بالإبقاء على جواز السفر الأردني الخاص بزوجته حتى تتمكن من السفر بحرية إلى الخارج لمواصلة علاجها…» إلّا أن وزارة الداخلية الأردنية كانت من اللؤم بحيث ردت أسعد عبد الرحمن خائباً.
و “السلطات الأردنية” لا تكف عن اللؤم و”قمع الطلبة” وإصدار الأحكام القاسية على المجاهدين. وفي هذا السياق، لم نفهم عن الصحيفة إذا ما كانت راضية أم زعلانة من إقدام “السلطات الأردنية” على إبعاد ثلاثة قياديين من الإخوان المسلمين السوريين عن الأردن، “إرضاء لدمشق…” ولن نفهم بالطبع. فهنا عادت الصحيفة إلى لهجة محايدة، توفق بين إسلاميتها وعلاقاتها الطيبة مع دمشق، وعدائيتها نحو “السلطات الأردنية”!
فهل عرفتم، الآن، لماذا صورة عبد الناصر وذكراه في “المانشيت” الأول للصحيفة؟!
ناصريّة بلا ضفاف!
Posted in Uncategorized.