مفارقة ..أن ترسل ما وُصفَتْ بأنها نخبة من ‘ القادة السياسيين والمفكرين ورجال الدولة والنشطاء المدنيين والإعلاميين’ من الأصول الفلسطينية، رسالة إلى الملك، تحت عنوان ‘ المبادرة الأردنية لمواطنة متساوية’! كيف؟ نخبة من أصحاب الامتيازات ويشكون التمييز ضدهم؟
آه ..إنهم ينتصرون لمظلومية الفقراء من أبناء جلدتهم؟ حسنا.. هل تمنحونهم بعضا مما لديكم من قصور ومال وجاه؟ ذلك أنه لا يوجد تمييز ضد الأردنيين من أصل فلسطيني ولكن ضد الفقراء منهم. أي أن التمييز اجتماعي وليس إثنيا أو ـ كما يقال ـ إقليميا. لا يُضطهَد الأردني من أصل فلسطيني في الأردن لأنه كذلك، بل لأنه كادح أو مقطوع أو يعوزه الجاه والسند
ودعوني ألخّص الأمر كله على النحو التالي: التمييز الرئيسي في الأردن هو الذي تمارسه الطبقات المسيطرة ـ معظمها من أصول غير أردنية ـ ضد الكادحين من كل الأصول، لكن أبناء العشائر قد يحتمون من الاضطهاد الإداري وليس الطبقي، جزئيا، بفضل انتمائهم العشائري وصلاتهم مع أقربائهم في القطاع العام.
تتضمن الرسالة ‘الجريئة’، جملة من السخافات حول ممارسات تمييزية لها طابع إداري. ويمكن للطرف الآخر أن يأتي بمثلها وأكثر. ولكن الرسالة التي لم يتجرأ أصحابها على نشر أسمائهم، لا تلتفت إلى حقيقة أن 65 بالمئة من أغنى خمسين ومئة وألف وعشرة آلاف ومئة ألف عائلة في الأردن هم من أصول فلسطينية. النسبة الباقية لا تعود لأبناء شرق الأردن ـ باستثناء عدد من العائلات المسيحية ـ بل لـ’ شتى المنابت والأصول’!’
إن السواد الأعظم من أبناء العشائر الأردنية هم موضع التمييز الحقيقي في البلاد؛ فهؤلاء خسروا أراضيهم جراء الضغوط الرأسمالية الكمبرادورية، ودُمّرت، تحت الضغوط نفسها، قدراتهم الإنتاجية في الزراعة التقليدية وتربية الماشية، وحُشروا، وفق سياسات مبرمجة، في خيار وحيد هو الوظيفة المدنية أو العسكرية، بدخل محدود متآكل، بل تحوّل عشرات الآلاف منهم إلى عمال مياومة في القطاع العام، وبينما يتحملون وزر المديونية العامة من خلال الضغط على الدينار، فإن معظم تلك المديونية ذهب لتشييد البنى التحتية وخدمة الاستثمارات في عمان على حساب المحافظات المهملة والمحرومة
الثروات الكبرى جاءت إلى البرجوازية في الأردن، جراء مهمات سياسية وأمنية. هذه المهمات تطلبت دائما وتتطلب أجهزة يشغلها أبناء العشائر المفقَرون ـ وهي خيارهم الوحيد ـ وهكذا، فبالتحليل الماركسي إن هؤلاء هم الذين يحققون فائض القيمة للبرجوازية من كل الأصول في البلاد.
ثم تحسدهم النخبة بعد ذلك على ‘امتيازات’ سخيفة جوفاء ناجمة، حين تحدث، عن محاباة قرابية. لكن التمييز الحقيقي هو الذي يحدث في القطاع الخاص، حين يحول الاسم الرابع على وزن فعيلات أو مفاعلة ..الخ بين الأذكياء والمؤهلين وبين الوظائف والترقيات والمنافسة. وبينما يلاحظ المراقب أن القطاع العام الأردني في مستوياته العليا والمتوسطة، أصبح مكانا مختلطا، فإن القطاع الخاص هو، باستثناءات محدودة جدا، مكان اثني مغلق
نأتي، أخيرا، إلى الاحتجاج الجوهري في الرسالة الجريئة في عنصريتها الطبقية والاثنية معا، وهو الاحتجاج الخاص بالحقوق المكتسبة للمحافظات في تركيبة المقاعد البرلمانية. لقد كشفت الرسالة، بذلك، السبب الحقيقي للاعتراض على قانون الانتخابات المقرّ. وهذا الاحتجاج مرفوض، أولا، لأن تلك الأرجحية النيابية هي تعويض سياسي، معمول به في كل البلدان، عن المظلومية الاقتصادية والاجتماعية، وثانيا، لأن العبث في التركيب الديموغرافي السياسي للبرلمان لا يعني المساواة، بل يعني التأسيس للوطن البديل، وثالثا، لأن موقعي الرسالة ما زالوا يرفضون تسوية اجتماعية سياسية شاملة في البلد، تقوم على دسترة فك الارتباط ورفض التجنيس والسياسات الضريبية القادرة على إعادة توزيع الثروة والتنمية الجدية في المحافظات.
الرسالة ليست جريئة وإنما تتجرأ على الأردن، مستقوية بالأجواء الإقليمية والدولية، وهي لا تبحث عن إحقاق الحقوق الفلسطينية ـ ومكانها في فلسطين ـ بل تبحث عن تعزيز مصالحها الفئوية على حساب الكادحين الأردنيين والفلسطينيين.
تم وقف التعليق على المقال بناء على طلب الكاتب
عن العرب اليوم