ناهض حتّر
اتابع، بمتعة ومحبة، برنامج «الحوار المثلث» للزميل جميل النمري. والنمري، على الرغم من خلافاتي السياسية معه، يظل، عندي، «نمرياً» طيباً، وابن بلد حقيقياً، محباً للأرض والناس. ويرى في ازدحام الاهل والعشيرة، وشدتهم في القول، واستقوائهم عليه، ما يفرحه، ويطهر قلبه، ويدفعه الى الدعة والابتسام. ولذلك، فالنمري «مطابق» لدوره في ادارة برنامج تلفزيوني حيّ يتم تصويره في المحافظات بين الناس الكادحين الطيبين.
انا اعرف هذه «الحالة» النفسية عند المثقفين الاردنيين من ابناء العشائر. صورها غالب هلسا، ورأيتها عند د. هشام غصيب، وموفق محادين، وعصام التل، وهاشم غرايبة، واحمد جرادات، وسعود قبيلات… و… و.. هؤلاء، على اختلاف مواقفهم الفكرية والسياسية، يستنفرون عقولهم مع الخصوم السياسيين وابناء الذوات، ويبسطون قلوبهم وابتساماتهم لشدة ابناء الكادحين، وضلوع العشائر.
هذه الافتتاحية هي على سبيل امتداح الشعب الاردني. هل تسمحون لي ان احب ابناء شعبي… والفت الانتباه الى كبريائهم وارستقراطية الفقر في رجولتهم وشجاعتهم وواقعيتهم السياسية، وارتباطهم العميق بالارض، وبالجماعة، وقدرتهم على ادراك حضورهم الاساسي الجوهري الذي لا يمكن تجاوزه في العملية السياسية.
اسمحوا لي ان احيي ابناء العشائر الاردنية على ايمانهم العميق بالقطاع العام، والتضامن الاجتماعي، واولوية الخبرات الوطنية، وعدائهم الثابت للخصخصة التي تذكر بالازدراء اللازم كعملية معيبة لا-وطنية. وهذا حسّ تاريخي سليم كان ينبض في حلقة «مثلث الحوار» في الكرك، حين نهض موظفو «البوتاس» وحلفاؤهم الاجتماعيون، للتنديد بخصخصة الشركة، واعني ان الخصخصة لها معنيان: زيادة التكاليف الادارية لمصلحة رأس المال الاجنبي (حيث ازدادت كلفة الادارة على الفور 15 ضعفاً) وتسريح العمالة الوطنية، وتهديد الامن الاجتماعي في المحافظة.
انها صرخة في واد. ولكن فلتدوّ الصرخة، ولتدرك جماعة «اللاب توب» ان للمحافظات مصالح ورأياً وقوة، وانه لا اصلاح سياسياً، ولا «ديمقراطية»… من دون تفاهم وطني يأخذ بالاعتبار تلك المصالح وذلك الرأي.
***
في عجلون، كاد الاهالي يخرجون من شاشة التلفزيون! ومطالب الاهالي في هذه المحافظة الجميلة (ذات الحول والطول في تاريخ الاردن الماضي) بسيطة واولوية، وتنهض مثل علامتي استفهام وتعجب ازاء جبال الكلام و«المشاريع» التحديثية والخطط والخلوات الاقتصادية وعبقرية الحواسيب النقالة!
ماذا يريد اهالي عجلون؟ جامعة، دعماً معنوياً واعلامياً للمشاريع السياحية، مركزاً صحياً وشوارع فرعية واستدامة الكهرباء وتسويق المنتجات الزراعية!!؟
كأننا في الستينات!! وهذه المطالب، كان يفهمها وصفي التل… فهل تلقى الصدى نفسه في قلب فيصل الفايز وعقله؟!
كأننا في الستينات!! المواطنون الذين ما يزالون ينظرون الى الدولة بصفتها تنظيماً سياسياً-اجتماعياً خاصاً بهم، يطالبون بقرية سياحية ينشئها القطاع العام… بين القطاع العام، مؤسسات وفكرة، يلفظ انفاسه الاخيرة!
فما الحل… اذا كانت المحافظة لا تتوفر على الاموال والمتمولين؟! ابيعها للمستثمر الاجنبي بحيث يصير اهل عجلون، اذا اتيح لهم ذلك، مأجورين لدى الغرباء؟! حتى ذلك غير ممكن!! فلنسمع الى واحد من اهالي عجلون، مستثمر في قطاع السياحة، يريد ان يبيع منشآته السياحية. لماذا؟ لأن القصة خسارة في خسارة!
لم يجد الاهتمام بالسياحة في عجلون الخضراء، عجلون صلاع الدين… لأنها لا تهم السائح الاجنبي. وهي تقع، بالتالي، خارج النظرة الاستشراقية للنشاط السياحي الأردني. وهكذا، فإننا لم نعط عجلون، اهتماما لا في الاستثمارات ولا في الترويج!! بل انه لا تتوفر مطبوعة واحدة لائقة عن عجلون!
كأننا في الاربعينات!! يا ليت!
***
«مثلث الحوار» برنامج افلت من بين ايدي رقابة الاعلام الرسمي ورتابته!! فهل نقول مثلما قال عجلوني فهيم ان القصة من وراء هذا البرنامج، القول، للعالم الخارجي، ان في الاردن… حرية! نقول ونقول ونقول… ثم لا يحدث شيء!!
ويظهر اننا نسير بالفعل نحو عملية سياسية مقفلة لصالح الاقلية الكمبرادورية التي شعارها: قل ما تريد… ونفعل ما نشاء!! سوى ان الصرخة العجلونية، مثل الصرخة الكركية، تضع مشروع التحديث كله في قفص الاتهام!
الى اين نسير مع وصفات صندوق النقد الدولي؟!
الى اين نسير مع عقيدة الخصخصة واحلال الكمبرادورية؟!
الى اين نسير مع رجال الاعمال… بينما يجوع رجال البلد!!؟
الى لا شيء!
لن يصبح الاردن سنغافورة الشرق الاوسط
.. ولن يعود «الاردن» الذي نعرفه! بل «منطقة حرة» غير قادرة على اجتذاب الاستثمارات، لأسباب سياسية واقتصادية، بينما يتم تدمير الاسس الاجتماعية والثقافية، للتكون الوطني الذاتي.
***
كأننا نحتاج الى خلوة وطنية هذه المرة… ومراجعة مشروع الحواسيب النقالة… على بساط احمدي!! ومناقشة اسئلة بسيطة: لماذا لا نخصص اموال الحملات الدعائية السياسية… لعجلون او الكرك؟! وما هي الجريمة في ان يتم استخدام اموال الخصخصة في استثمارات وطنية جديدة في المحافظات؟! بدلاً من هدرها في الاعلانات المضحكة عن زيادة الانتاجية؟! ام ان دور الدولة الاقتصادي-الاجتماعي، في بلدنا ممنوع سياسياً؟!0