الملك عبدالله ونتنياهو في عمان هذا الشهر (أ ف ب)
وسط النار التي تلتهم المنطقة على أمواج احتدام الصراع أو التسوية الكبرى في سوريا ولبنان والعراق ومصر ـــ وفي الخلفية، دائماً، الحلف السعودي ـ الإسرائيلي في مواجهة إيران ـ لم يعد الرأي العام العربي ليهتمّ بما يحدث في مسار تفاوضي أصبح ثانوياً، أعني المسار الفلسطيني ـ الأردني ـ الإسرائيلي
بدأت الاحتجاجات خجولة في عمّان، لكن اجتماعاً ضم عدداً من الضباط المتقاعدين، على رأسهم الفريق أول عبدالهادي المجالي رئيس مجلس النواب الأسبق، وضع النقاط على الحروف، فرأى، في بيان، أن «حكومة عبدالله النسور تتجاوب كلياً مع مشاريع تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وأنها منصاعة – تماماً – للإملاءات الخارجية» وخصوصاً «الاستهداف الأميركي – الصهيوني للوطن، عبر مشاريع وخطط يروّجها وزير الخارجية الاميركي جون كيري». ودعا العسكريون المتقاعدون إلى «عقد ملتقى وطني، في النصف الأول من شباط المقبل، غايته تحديد الثوابت الوطنية الأردنية غير القابلة للتنازل أو التفريط، وإعلان موقف حاسم من أي جهة رسمية تمسها أو تتجاوز عليها تحت أي مسوغ».
اللافت أن الموقّعين على البيان لم يذكروا أنهم «متقاعدون»، بل وقّعوا، في رسالة تحد، كعسكريين… منهم «الفريق الركن دروع محمود حماد، والفريق الركن مظلي موسى العدوان، واللواء مخابرات محمد العتوم، واللواء الركن دروع أحمد الرشايدة، واللواء الركن مدفعية محمد إبراهيم خريسات، واللواء شرطة عدنان العبداللات، واللواء الركن دفاع جوي محمد جمال المجالي»، إضافة إلى عمداء وعقداء ومقدمين من الناشطين المعروفين في حركة المتقاعدين العسكريين.
بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، هناك مؤشرات على قنوات سرية وتفاهمات وعروض في الغرف المغلقة والعلن، آخرها اقتراح الرئيس محمود عباس إحلال قوات من حلف شمالي الأطلسي محل القوات الإسرائيلية في الغور الفلسطيني، لضمان أمن الحدود مع الأردن. هذا الاقتراح عيّنة من حلول بديلة لمشكلات تطرحها تل أبيب التي تريد الحصول على أكثر ما يمكن من المكتسبات في اللحظة الراهنة، الأكثر ملاءمة لتركيع فتح ـــ رام الله، وتخيير حماس ـــ غزة الغارقة في الصراعات العربية العربية، بين الخضوع أو الضرب.
لكن الأخطر هو ما يحدث في الأردن، حيث يستنفر نظام الحكم للشروع العاجل في تنفيذ مضاعف ذاتي الاندفاع لما هو مطلوب منه في إطار مشروع جون كيري لتسوية تقوم ليس فقط على إلغاء حق العودة، بل، أيضاً، تهجير المزيد من الفلسطينيين من أراضيهم، ومن سوريا ولبنان نحو التوطّن في الأردن. صحيح أن هناك أحاديث حول مهاجر أخرى: كندا وأستراليا والخليج، لكن الأردن هو البلد الذي سيكون حاضنة جيوسياسية لأغلبية الفلسطينيين خارج فلسطين. ليس ذلك المصير مفروضاً من الخارج فقط، بل هو يعبّر، بالأساس، عن تكوّن مصالح واتجاهات داخلية لإنشاء دولة بديلة في الأردن.
في مطلع التسعينيات، رأى المحافظون الأميركيون الجدد (بول وولفوتز) أن السلام والتحديث في الشرق الأوسط يظلان مهددين ما ظلت البلدان العربية المجاورة لإسرائيل استبدادية؛ فالديموقراطية، حسب وولفوتز، هي التي تصنع سلاماً حقيقياً وازدهاراً في المنطقة، ولاحظ أن الديموقراطية تحتاج إلى تغييرات هيكلية في ثلاث دول عربية: العراق ـــ حيث تحكم الأقليةُ السنيّةُ الأكثريةَ الشيعيةَ ـــ وسوريا ـــ حيث تحكم الأقليةُ العلويةُ الأكثريةَ السنيةَ ـــ والأردن ـــ حيث تحكم الأقليةُ الشرق أردنية الأكثريةَ الفلسطينية ـــ.
كانت هذه النظرة في قلب الحرب الأميركية على العراق، وفي قلب «الثورة» الدموية في سوريا، والآن جاء دور الانقلاب الديموغرافي السياسي في الأردن. وقد تشكلت الظروف المناسبة لكي يفي نظام الحكم بالتزامه التنفيذ الذاتي للخطة؛ فأولاً، أظهر الحراك الشعبي الشرق أردني، بين عامي 2010 ـــ 2012، مدى الهوّة التي تفصل بين النظام وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبين قاعدته القديمة، المفقرة والمهمشة، في المحافظات. لقد صُدم الملك عبدالله الثاني وأركان حكمه بحجم المعارضة الشعبية الجديدة وعمقها وشراستها، فبدأ يرى في التسريع في الانقلاب الديموغرافي السياسي ضرورة للحفاظ على نظامه. لكن اللحظة كانت مربكة للغاية، وهي كادت تطيحه لولا انشقاق الإخوان المسلمين عن الحركة الوطنية، تحت عنوانين أدّيا إلى عزلتهم وإضعافهم شعبياً، هما: (1) تقديم أنفسهم للأميركيين باعتبارهم القوة البديلة القادرة، أكثر من النظام ـــ المتردد والمقيّد ببنية الدولة وأجهزتها ومؤسساتها ـــ على تنفيذ خطة الانقلاب الديموغرافي السياسي بصورة جذرية وسريعة ومترافقة مع ديموقراطية إخوانية تستوعب حلاً كونفدرالياً لتفاهم واقعي مع إسرائيل، (2) الانخراط الإخواني في الصراع ضد سوريا، وتالياً انكسار علاقاتهم مع القوى القومية واليسارية.
الآن، وقد تراجع الحراك الشعبي في المحافظات، وخرج الإخوان من المنافسة، بدأ النظام أكثر حرية في التسريع بمشروع «الدولة البديلة»؛ فعلى العكس من نظامي البعث في بغداد ودمشق، اللذين رفضا وقاوما تغيير بنى الدولة وتوجهاتها، مقابل البقاء، اختار النظام الأردني بقاءه في دولة بديلة، من شأنها أن تضمن قاعدة اجتماعية ـــ سياسية جديدة للعرش، وتؤمن سلاسة انتقاله إلى ولي العهد، حسين، المولود من أم فلسطينية.
ظهر مصطفى حمارنة، الأستاذ الجامعي السابق والمرتبط بالمحافظين الأميركيين الجدد، في مفاصل رئيسية، خلال العشرين عاماً الأخيرة؛ فهو كان بارزاً في التنظير لمعاهدة وادي عربة (1994)، وفي التنظير للعدوان على العراق (2003)، وفي بناء شبكة معادية لنهوض الحركة الوطنية الأردنية (2010) بالتنسيق مع صديقه وحليفه عزمي بشارة، وفي دعم «الثورة السورية»، وفاز في انتخابات 2013 بمقعد نيابي مشكوك في صحته. وفي البرلمان، بدأ يلعب دوره الحالي؛ شكّل ما يعرف بـ«المبادرة النيابية» التي حظيت بدعم موصول وعلني من الملك الذي فرض على حكومة عبدالله النسور القبول بتوجهاتها «الإصلاحية».
للدقة، لا ينشط حمارنة ـــ ومبادرته وشبكته ـــ لخدمة أهداف أميركية ـــ إسرائيلية، بل يتساوق معها، في إطار رؤية كوّنها، انطلاقاً من منظور محافظ جديد، ترى أن البنية الشرق أردنية عشائرية ومتخلفة اجتماعياً وسياسياً، ومعادية للتحديث والديموقراطية. وهو يعتقد، كما العديد من الليبراليين الأردنيين، أن إحداث انقلاب ديموغرافي سياسي في الأردن يمنح «الأغلبية الفلسطينية» فرصة الحكم، وسوف يؤدي إلى بناء ديموقراطي حديث في البلاد.
هكذا، اجتمعت العوامل الخارجية والداخلية لتكوين عملية متسارعة لتحقيق مشروع جون كيري باندفاع ذاتي من قبل تحالف متعدد الدوافع والأهداف، ويستغل الاحتياجات الإنسانية الضاغطة على الجمهور الفلسطيني في الأراضي المحتلة وبلدان الشتات لاستخدامه كأداة انقلاب اجتماعي ـــ سياسي.
ردّ الفعل في المحافظات، حتى الآن، هو الذهول من تسارع التطورات، وسط ضغوط اقتصادية ومعيشية متصاعدة، ومشاعر القلق من الآتي على مسافة رمية حجر من الحرب السورية. وقد تبين أن شبكة «الدولة البديلة» كان جرى بناؤها بثبات، خلال السنوات الفائتة، وتوسعها لتشمل وزراء وقيادات سياسية وأمنية ويساريين وقوميين وصحافيين ورجال أعمال، جلّهم من الشرق أردنيين!
وبينما تفتقر الحركة الوطنية إلى منابر بعدما سيطر تيار توطيني على صحيفة «العرب اليوم»، وتم تقييد المواقع الإلكترونية ومراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، وتجنيد أبرز الصحافيين، وكذلك في ظل نشاط محموم تقوم به وزارة الداخلية ضد الناشطين الوطنيين، لم يعد ممكناً تقصّي نمو حركة الاحتجاج المتوقع انفجارها فجأة، وقد تقود البلاد إلى انشقاق سياسي عميق، وانفراط أمني محفوف بمخاطر انفلات إرهابي.
التهجير الناعم
فكرة «الدولة البديلة» قديمة، متوافرة بكثرة في الأدبيات الصهيونية التي تدّعي أن «أرض إسرائيل» جرى تقسيمها، بالفعل، عام 1921: حصل العرب على كامل ضفتها الشرقية ( الأردن)، حيث المكان الذي تنازلت عنه الصهيونية ليكون الدولة الفلسطينية. وفي معاهدة وادي عربة بين عمان وتل أبيب، تم السير خطوة رئيسية في هذا الاتجاه: الاعتراف الأردني بأن اللاجئين والنازحين في المملكة يشكلون قضية إنسانية واقتصادية، يتم بحثها في إطار خطط التوطين. مذ ذاك، كانت الحدود مفتوحة، دائماً، للتهجير الناعم من الأراضي المحتلة باتجاه الأردن؛ بلغ عدد المهجرين مليوناً في عام 2011، وقفز فجأة إلى مليون ونصف عام 2013، إضافة إلى أكثر من ربع مليون غزّي، ومثلهم من أزواج الأردنيات وأبنائهن، وعشرات الآلاف من فلسطينيي سوريا.