ملحم التل

العرب اليوم ناهض حتّر
… وعندما قلت له «… هذا هن حقوقي الدستورية كأردني…» رأيت ان عينيه الطيبتين تلمعان تحت جبهته العريضة.
لقد كان سعيداً، يستمع الي باهتمام ومحبة تعاطف ظاهر، وكانه كسب رهاناً ما. وقد ادهشني ذلك. فملحم التل كان ذلك «الموظف الكبير» الذي جئت اوسطه لدى دائرة المطبوعات، للافراج عن قصائد سياسية كان مراقب المطبوعات قد شطبها من مجموعتي الشعرية «عاشق من عمان».
كان ذلك على الارجح في ربيع ١٩٧٥ وكنت كتبت، تحت تأثير الشاعر العراقي مظفر النواب، هجائيات سياسية عنيفة أردت نشرها.
وكنت أجادل بان حرية التعبير هي حق دستوري، رافضاً الخضوع للمواصفات العرفية السائدة انذاك، وكأنها مقدسات! وقد نصحني شخص محترم لا اذكره للأسف بان ازور ملحم التل في «الخارجية» واشرح له الأمر.
ماعدا كلمات التشجيع، والتأكيد على «حقوقي الدستورية» … لم يستطع التل ان يفعل لي شيئاً، كان الرجل مقصى بلا نفوذ، وكان قد دفع العام ١٩٧٣ ثمن حقه الدستوري في حرية التعبير، بإقصائه عن رئاسة تحرير صحيفة الرأي ويقول الزميل طاهر العدوان الذي كان حينذاك، مشرفاً على «الرأي» ان ملحم التل لم يستطع الصمت على الحملة والاجراءات التي استهدفت تفكيك الهم الوطني الاردني، بعد استشهاد وصفي التل، وتصاعدت بقوة لاحقاً بحيث كتب ملحم التل، مقاله الشهير الذي اخذ عنوانه من المثل الشعبي الاردني «زيتون برما داشر وعيشوا يا همل»
لقد نصحه العدوان بالتريث الا انه اصر ونشر المقال وكانت النتيجة اقصاء كاتبه عن قيادة الرأي، الى مكتب حكومي بلا عمل وتصاعدت الحملة المتأمركة اكثر فاكثر وضيقت الخناق على الوطنيين الاردنيين ومنهم وابرزهم ملحم التل الذي تم عزله واعتقاله.
لقد كنت اشعر بتلك الاجواء المعادية للهم الوطني والدستوري، ولكنني، حين قابلت ملحم التل، لم اكن اعرف انه احد ضحاياها.
وفي وقت لاحق ١٩٧٧ عرفت من صديق العمر الرفيق عصام التل، ان قريبه ملحم قد اسس حزباً دستورياً. وكانت الاحزاب وقتها ممنوعة والاحزاب العقائدية والفلسطينية تعمل في السر وتعتمد مبدأ السرية. وكان من الغريب ان يعمد معارض الى تأسيس حزب علني هو «الجبهة الاردنية العربية الدستورية» رافضاً الاعتراف بالاحكام العرفية. مصراً على التمتع بحقوقه الدستورية والقانونية… كمواطن اردني.
في ذلك الوقت كان عصام بعمق فكره السياسي، معجباً بالتجربة… ولكننا، بالطبع، لم نكن نـأخذها -بينما نحن نؤسس خطاً ثورياً -على محمل الجد، لقد كنا نريد تغييراً جذرياً في الاردن والمنطقة والعالم، ولم يكن لحزب دستوري معارض ان يلهمنا الا ان عصام كان معجباً بشجاعة ملحم ونزعته الى التحدي والتمرد.
وهكذا لم التق مع مؤسس الجبهة الدستورية، حتى العام ١٩٩٦ حين طورت مع رفاق اخرين خطاً سياسياً يقوم على الهم الوطني الاردني بما في ذلك التمسك بدور الدولة الاقتصادي الاجتماعي وبالدستور لماذا؟ لان الجماهير الكادحة المعنية بالحفاظ على وجودها السياسي وهويتها، وعلى القطاع العام وتطويره، تحتاج في نضالها الاجتماعي والوطني هذا الى تفعيل الدستور، والاحتماء به ضد هجمة الليبرالية الجديدة المتوحشة المعادية (لانها تعبر عن مصالح الاقلية) للمعايير الدستورية والقانونية.
من مخبأي وتالياً من سجني في صيف وخريف ١٩٩٦، تابعت باعتزاز، الاداء المميز لملحم التل الذي كان لحسن الحظ، وقت انفجار انتفاضة الخبز ذلك العام رئيساً لائتلاف احزاب المعارضة، كان ملحم يتصرف كرجل دولة بإباء وانفة وتركيز على الجوهري، وحالما خرجت من السجن، التقيته، ودعوته الى الكتابة في صحيفة الميثاق الاسبوعية وقد اصبح مساهماً فيها.
وبدأنا للتو، علاقة سياسية نشيطة. لقد وجدنا معاً، اننا متفاهمان بالكامل، وبدأنا ننسق بصورة ثنائية، المواقف والنشاطات وشكلنا نحن الاثنين حزباً خاصاً، وجدته على ابواب السبعين شاباً ومناضلاً لا يتعب ولا يمل، مستعداً للقيام بتلك الجولات الطويلة المرهقة في الريف الاردني للقاء ابناء الحراثين، والحوار معهم، واستنهاضهم، وكنت انظر اليه انا المتعب الملول في العقد الرابع وهو يغذ الخطا يملأ البشر وجهه في اجتماعات ابناء العشائر والقرى، فاتبعه وفي الاستراحات، يزدهر حسه الساخر ازاء كل شيء، وازاء نفسه وازائي، فنضجّ بالضحك. اصبح ملحم التل ابي ورفيقي وصديقي وهذه الابوة والرفقة والصداقة حيث تجتمع وهي نادراً ما تجتمع تمنحك ذلك الشعور الكثيف المتعدد الطبقات بان العالم آمن وجميل.
كنت اذهب اليه في المساءات بروح معذبة وانا واثق انني عما قليل في صالون شقته الفوضوي وبعد ان يضيفني قدحاً من عصير الحصرم اللذيذ، ونبدأ الحديث سوف يتفتح قلبي كشراع للريم يستمع الي بصبر ويهون علي، واستودعه اسراري مطمئناً الى انها لن تخرج من خزنة روحه المعطرة بالشيح والقيصوم وكان يجري الى مقهاه على ناصية الشارع في الشميساني نشرب الشاي وندخن ونتحدث ونضحك. وبما ان النساء المارات امام هذا المقهى الشعبي او اي الجالسات على مقربة لسن من النخب الاول مما يضجرني، يقترح علي الانتقال الى مقهى اخر في الرابية حيث يمكن مشاهدة صبايا فاتنات فاننا كنا معاً في مقتبل العمر!
كان ملحم التل يحب المقاهي وهذه تعود عليها في مصر، وهي حبه الكبير وهوى فؤاده، على الرغم من انه آتي السياسة سوراقي الهوى… فدمشق وبغداد عنده هما جناحا الاردن اللذان بهما يحلق بلدنا مثل صقر.
والشيء الذي لم استطع ان اجاري صديقي ملحم به، هو المشاركة في المظاهرات والمسيرات التي كان لا يترك فرصة للسير فيها، وكان يسخر مما يسميه استعلائي على الزحام الشعبي!! وكنت اجادله باننا قادة سياسيون وعلينا ان ننظم نحن المظاهرات تحت راياتنا وشعاراتنا الان نسير تحت رايات وشعارات الاخرين، غير انه كان يحب الناس، ويمنحه الجمع البشري ذلك الاحساس العميق بالقوة والتفاؤل.
ذات مرة في خريف ١٩٩٩ الح علي ان نذهب الى (…) لنشارك في مسيرة ولحسن الحظ ان اخي خالد لم يتركنا نذهب وحدنا فذهنا ثلاثتنا الى منطقة التظاهر في سيارة خالد الذي عبر دروب وازقة وحارات، حتى وصلنا بأمان، فوجدنا الشرطة قد أخلت المكان، واصبح السير فرصة استغلها السواق بتجاوز السرعات والالتفافات الخطرة والتشاتم وكانت هناك مجموعات صغيرة من الشباب تهتف بهتافات قاسية جداً تشملنا نحن الآتين للتضامن ربما لاننا نرتدي بدلات انيقة وربطات عنق وندهش للشتائم على رؤوسنا فقد حسبنا الجمع، ضباط امن، هذا الاعتقاد الساذج هو الذي انقذنا!!
لا املك حيث اذكر ملحم التل سوى الفرح، ولا اذكر من احاديثه سوى تلك السخريات اللاذعة واخبار الغراميات المحبطة، ونقدياته النافذة المرحة للرجال… غير ان ملحم التل عاش ومات مناضلاً.
في الاعوام ٦٨ -١٩٧٠ التحق ملحم التل، المثقف القوي الديمقراطي بجبهة الحراثين وقال له الملك الراحل العام ١٩٧١ «قاتلت عن لواء كامل في الجيش العربي». وكان الطريق ممهداً اماه لكي «يصعد» ولكنه اختار مرة اخرى، جبهة الحراثين… ضد الفساد والاستبداد والاحكام العرفية والطبقة الجديدة التي قفزت الى الحكم تحصد ثمار معركة الشعب.
وهذا الذي قاتل دفاعاً عن الاردن بقدرة لواء باسل عزل من الخدمة وزج به في الزنزانة ولم يتزحزح عن ايمانه بالاردن… وطناً للعروبة والتقدم والديمقراطية ناضل من اجل العودة الى سيادة الدستور في السبعينات والثمانينات. ولمواجهة الاختراق الصهيوني والخصخصة والتوطين، في التسعينات وكانت ادواته دائماً، هي نفسها تحشيد ابناء الحراثين… وفي مواقعهم في ارياف الاردن وبواديه فهؤلاء هم عصب الدولة واساس السياسة في بلد له «كيمياء» لا يعرفها الا العشاق!!

Posted in Uncategorized.