ملاحظات هادئة على أسئلة خاطئة

ناهض حتّر
مما يشرف الاستاذ عدنان ابو عودة انه ولد في عائلة شعبية. وكان والده عاملاً فنياً في معمل صابون بنابلس، وبإلحاح من والدته، هجر المهنة التي اختارها «مكانيكي سيارات» وتابع دراسته، وأصبح معلما فضابطاً في المخابرات فوزيراً فرئيساً للديوان الملكي.

انها قصة نجاح من الطراز الاول، بالطبع، لكنها، ايضا، أنموذج لفرص الصعود التي اتاحتها دولة وحدة الضفتين، لأبناء الفلاحين والكادحين الفلسطينيين.

كانت عملية الدمج الاولى، ذات طابع ديمقراطي عميق، تمثلت في نهوض التيارات الوطنية التقدمية في الخمسينات، وكانت ذروتها حكومة سليمان النابلسي «1956» التي وحدت القوى الاجتماعية في اطار دستوري.

مع وصفي التل، «مطلع الستينات» تغيرت التحالفات الاجتماعية داخل دولة الوحدة، فلم تعد العلاقة مع الضفة الغربية محصورة بالتحالف مع ابناء العائلات، بالعكس، كانت استراتيجية التل هي اعادة التكوين الاجتماعي للنظام السياسي- والوحدة- من خلال تصعيد «ابناء الحراثين» في الضفتين، في نخبة سياسية جديدة، كان من الطبيعي ان يكون معظم اعضائها بعثيين وشيوعيين سابقين، وكان من المحتوم ايضا ان تنخرط في بناء القطاع العام ومنظومة الرعاية الاجتماعية والسياسية الأمنية.. تماما مثل انظمة «القطاع العام» في مصر الناصرية وسورية والعراق في ظل البعث. فالاردن- ومن موقع مضاد في السياسة الخارجية- عرف هو الآخر – على المستوى الداخلي- كل مظاهر الشعبوية الناصرية- البعثية.

ومن يرغب في الاطلاع على هذا التحليل، يمكنه العودة الى كتابي «الملك حسين بقلم يساري اردني» لكنني اورد هذه الخلاصة هنا للقول بأن العلاقة بين الضفتين كانت اكثر عمقا واتصالا وتجذرا – بالمعنى الاجتماعي- السياسي من الآراء السطحية السائدة اليوم عن «ضم» الضفة الغربية من قبل دولة برانية غريبة تحالفت مع اقلية معزولة من الاقطاعيين والاغنياء.

الآثار العميقة لعملية التوحيد الاجتماعي بين الضفتين لا تزال تعمل حتى الان في الاردن، حيث اصبح المكوّن الفلسطيني جزءاً من مكونات الشعب الاردني، فكم تبلغ «نسبة» هذا المكوّن الاجتماعي- السياسي؟ اكثر من 60 بالمئة مثلما يقول ابو عودة ام في حدود الاربعين في المئة – ام اقل؟ هذا السؤال ملغوم وخاطئ من الاساس.

ملغوم لأن الديمغرافيا الفلسطينية في حالة سيولة سياسية وواقعية وقانونية. فإذا كنا نتحدث عن المندمجين كلياً، فربما تكون النسبة هي 25 بالمئة، واذا كنا نتحدث عن الاردنيين من اصل فلسطيني فربما نتحدث عن 43 بالمئة.. واذا كنا نتحدث عن الفلسطينيين المقيمين في الاردن او يستطيعون- بصورة قانونية- الانتقال إليه من الضفة الغربية، فربما، نتحدث، عندها، عن 65 بالمئة او حتى 70 بالمئة.. واكثر حسب قوة اندفاع الترانسفير الواقعي.

بالنتيجة هناك نسبتان كلتاهما صحيحتان ولكن اولاهما تتعلق بالاردنيين من اصل فلسطيني «43 بالمئة» وثانيتهما تتعلق بالفلسطينيين بعامة «65 بالمئة» وهذه النسبة – الاخيرة- مرشحة للزيادة.

فهل يريد ابو عودة، اذن، تجنيس حوالي مليون فلسطيني من المقيمين في الاردن او ممن يستطيعون الاقامة فيه؟

لكن السؤال خاطئ بالأساس، لأنه يحوّل الاردنيين من اصل فلسطيني الى «طائفة» سياسية. وبهذه المقدمة الخاطئة سوف نحصل – في احسن الافتراضات- على دولة تمثل فيدرالية الطوائف على اساس المحاصصة. وهذه وصفة ممتازة للانشقاق والمواجهة على الطريقة اللبنانية او حتى العراقية. ومن حسن الحظ ان هذه الوصفة الاردنية مرفوضة من اغلبية الاردنيين- بغض النظر عن اصولهم.

الدولة القابلة للتحديث والتطوير والمفرطة في بلدنا، هي – فقط- الدولة القائمة على المواطنة. والانتساب المقبول لهذه الدولة هو الانتساب الفردي.. وليس الانتساب الجماعي للطائفة السياسية او الكتلة الديمغرافية- السياسية. نحن نتحدث، اذن، عن دولة المواطنين الاردنيين، وليس دولة المحاصصة بين «طائفة شرق اردنية» وطائفة فلسطينية! مثلما نتحدث عن الدولة الوطنية الاردنية ذات الهوية الواحدة، وليس عن فدرالية الطوائف والهويات.

وبالنسبة لـ «عدالة» التمثيل السياسي الديمغرافية، هناك ايضا، عدالة التمثيل السياسي الاجتماعية، وعدالة تمثيل الجغرافيا التكوينية. وهذا التوازن بين الديمغرافيا والعدالة الاجتماعية والجغرافيا في التمثيل السياسي، مبدأ أساسي معمول به في كل البلدان الديمقراطية.

فمواطنو الريف الفرنسي يحصلون على مقاعد برلمانية اكثر- نسبياً- من مواطني باريس، والولايات الامريكية يمثلها عدد متساو من رجال الكونغرس. على الرغم من انها غير متساوية في عدد سكانها.

آليات التمثيل السياسي في الاردن، هي، بالطبع، غير ديمقراطية، لكن زيادة حصة مقاعد «الطائفة» ذات الاصول الفلسطينية، لن يجعلها كذلك. فالحل هو في تغيير هذه الآليات جذريا بحيث يكون التمثيل للتيارات السياسية الوطنية المتوقع ان تشتغل بوصفها إطارا للانصهار الوطني .. آخذين بالاعتبار ان هذا الانصهار يحتاج الى وقت وجهد وتفاعل. فالمواطنة القانونية تحصل عليها من دائرة الاحوال المدنية لكن المواطنة السياسية فهي تتحقق، فقط، بالنشاط السياسي والاجتماعي والثقافي المركز على الاندماج من موقع المواطن.. لا من موقع «الطائفة».

يا ليت ان عدنان ابو عودة درس، بعناية، اطلالته عبر «الجزيرة» لكي يوضح او يساهم في توضيح المأزق التكويني الناشىء عن عدم الانتقال الجذري نحو الديمقراطية في بلدنا، بدلاً من تصعيد المأزق بالالحاح على رؤى الطائفية السياسية.

Posted in Uncategorized.