تبنّى الملك, في مؤشر آخر على انشغال القيادة السياسية بالآثار المقلقة لسياسات الخصخصة الشاملة وتحرير سوق الطاقة, خيارا جذريا هو ربط الأجور بالأسعار. وسوف نرى, لاحقا, ما إذا كان هذا الخيار سيحظى بالدعم الكافي من الجهات الحكومية المعنية والقطاع الخاص.ربط الأجور بالأسعار شهريا هو أكثر الوسائل ديناميكية للتعامل الاجتماعي مع وطأة التضخم على العاملين بأجر. لكن يمكن أن يكون ذلك الربط فصليا, ويفرض زيادة في الأجور بالنسبة نفسها التي يرتفع فيها مؤشر الأسعار. وهكذا يحافظ العاملون على مستوى ثابت, نسبيا, من القدرة على استهلاك السلع والخدمات.
بالنسبة للقطاع العام, حيث يتم تقدير الأجور إداريا, وليس وفقا لمعطيات السوق, فانه لن يكون هناك أثر فعال لربط الأجور بالأسعار, إذا لم يتم إصلاح هيكل الرواتب جذريا, لكي تتناسب مع نقطة يتساوى فيها مؤشر متوسط الرواتب الحكومية مع مؤشر متوسط غلاء المعيشة الحالي. فمن دون ذلك, سوف يبقى مستخدمو القطاع العام يلهثون وراء الأسعار, ووراء مستوى الأجور في السوق.
وبالنسبة للقطاع الخاص, فلا بد, أولا, من نقطة انطلاق زيادة الحد الأدنى للأجور إلى مستوى عادل يؤمن المتطلبات المعيشية الكافية دون درجة الإملاق. هذا مع الأخذ بالاعتبار مجانية الطبابة والتعليم الثانوي وإعادة النظر في خصخصة التعليم الجامعي.
هل يمكن للخزينة العامة, تلك التي تنوء بأقساط وفوائد المديونية, احتمال عبء زيادة الرواتب وربطها بالأسعار؟ من الواضح أن ذلك صعب جدا, ما لم يتم شطب الدعم الاجتماعي للسلع والخدمات, كليا, من الموازنة العامة. وحتى, في هذه الحالة, فالموارد المتاحة لا تسعف برنامجا طويل المدى لربط الأجور بالأسعار.
أرباب العمل أقدر, بالطبع, على تمويل هذا البرنامج, طالما أن الزيادات في الأجور سوف تنعكس في أسعار السلع والخدمات. ولكن ذلك يصطدم, في سوق حرة غير محمية, بالقدرة على المنافسة أو على التصدير. وهو ما سيؤدي إلى انكماش التوظيف, ودفع المؤسسات إلى الاستغناء الكثيف عن العاملين, وإعادة تعريف الوظائف لدمجها.
وأخيرا, لا آخرا, علينا أن نلاحظ أنه, بالإضافة إلى البطالة العلنية التي لن تستفيد بالطبع من برنامج ربط الأجور بالأسعار, فان العاملين المؤقتين ولدى مؤسسات فردية أو عائلية وأصحاب المشاريع الصغيرة, سوف يكونون, عمليا, خارج البرنامج, يبنما يتلظون بالآثار الموجعة لخطط إلغاء الدعم الاجتماعي من الموازنة العامة.
والخطر الذي يلوح جراء الزيادات التعويضية في الأجور, مع التدني المعروف في الانتاجية, هو تنامي التضخم وزيادة كلفة السلع والخدمات ومنها الخدمات الطبية والتعليمية على نحو غير اقتصادي. بينما ستظل فئات اجتماعية عديدة في منزلق التدهور الشديد, خارج أية حماية أو رعاية من أي نوع.
وربما تلعب, هنا, شبكة الأمان الاجتماعي دورا فاعلا في سد الثغرات. لكن, تواجهنا على الفور معضلات منها 1- اتساع تلك الثغرات فوق طاقة الشبكة, و2- عدم تبلور بديل فكري وعملي للأمان الاجتماعي يفصله عن العمل الخيري, و3- تمويل تردي الانتاجية وثقافة ترجي الإحسان.
لقد كان لمشروع الإصلاح الاقتصادي الليبرالي, هدفان رئيسيان هما 1- تحرير الموازنة العامة من ‘ تشوهات’ الدعم, و 2- تحفيز الاستثمارات وتوليد فرص العمل, واستيعاب البطالة والفقر. ولقد فشل هذا المشروع, بعد عقدين تقريبا, في تحقيق هذين الهدفين. فالموازنة لا تزال مشوهة بالتزامات المديونية, بينما انتقل ‘الدعم’ من المجال الاجتماعي إلى دعم المستثمرين بالإعفاءات والتسهيلات والأسعار الرمزية لممتلكات الدولة وتراخيصها.
وبينما استولى الرأسمال الأجنبي على القطاعات المربحة كالإتصالات والمناجم والأعمال المالية, تركزت الاستثمارات الجديدة في مجالي العقارات والصناعات التصديرية, ويعتمد كلاهما, بالأساس, على الأيدي العاملة الوافدة.
ولعلنا وصلنا, الآن, إلى ضرورة مراجعة البرنامج الاقتصادي الليبرالي كله, خصوصا مع اتجاه سعر برميل النفط إلى المئة دولار. وفي رأيي أن هذا السعر هو فوق قدرة الاقتصاد الأردني على العمل.