قطع المجتمع الأردني في تطوره الاجتماعي ـ السياسي خلال النصف الأول من هذا العام، خطوات لم يقطعها في مسيرته الغنية منذ التحول الديمقراطي سنة 1989 . ويعود ‘ الفضل’ في ذلك إلى الليبراليين الجدد. فمن خلال بلورة وتسريع البرامج الليبرالية الجديدة ، في الخصخصة وبيع الممتلكات العامة وتفكيك بنى الدولة الاقتصادية والاجتماعية ، حصل ما يمكن وصفه بالإجماع الوطني المضاد . وهو ما نتلمسه في جملة من الوثائق السياسية والبيانات والاجتماعات واللقاءات وحتى الجلسات الخاصة والعائلية والمناسبات . فالأردنيون أصبحوا يتحدثون بلسان واحد. وها هي الوطنية الأردنية ، تكتسب ، لأول مرة ، مضمونا أيديولوجيا ، يقرن الوطنية بالدولة والقطاع العام والمؤسسات الدستورية والعدالة الاجتماعية.
ومقابل الليبرالية الجديدة التي تنطلق من تحالف الكمبرادور مع الرأسمال الأجنبي ، نشأت وطنية جديدة تنطلق من التحالف الاجتماعي للأغلبية التي تضم الكادحين في الريف والمدينة والبادية ، والعشائر ،والعاملين بأجر، والفئات الوسطى، والمهنيين، والمثقفين، و البورجوازية التقليدية المحلية وبيروقراطية الدولة وأجهزتها الدستورية والسيادية. وبالمعنى التاريخي ، فإن المجتمع الأردني تمكن من إعادة تعريف نفسه كمجتمع متعاضد يستعيد جذوره المساواتية التقليدية ، ولكن في صيغة دولتية.
وعلى مستوى متصل ، أتاح فشل ما يسمى ‘ العملية السلمية ‘ من جهة ، وسقوط القناع عن المشروع الأميركي للوطن البديل من جهة أخرى، للوطنية الأردنية أن تعبر عن نفسها بقوة عارمة . وهو ما يعكس مدى تطور المجتمع الأردني ووعيه بذاته وهويته ، وحساسيته إزاء كل ما يمس سيادة وكينونة المملكة الأردنية الهاشمية ، باعتبارها دولة وطنية وإطارا لمشروع وطني ـ اجتماعي تقدمي.
ويعود ‘ الفضل’ في ذلك ،إلى حملة المرشح الجمهوري اليميني للرئاسة الأميركية ، جون ماكين. فتصريحات مستشاري المرشح المذكور المعادية للمملكة، استفزت كل أردني شخصيا ، ودفعت الأكثر وعيا بين صفوفهم إلى إعادة تعريف الأولويات الشخصية ، ووضع مهمة الدفاع عن الكيان الوطني على رأس جدول الأعمال. وعلى رغم أن المشروع الأميركي ـ الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية في الأردن معروف ، فأن الإعلان عنه أدى إلى استنفار مضاد، ومنح الهوية الأردنية ، شرعية مضاعفة.
وفي قفزة على مستوى الوعي السياسي، أخذ المجتمع الأردني يربط ، بصورة جدلية بين البرامج الاقتصادية الليبرالية الجديدة وبين المخاطر التي تحيق بالوطن . وهناك إلحاح للتأكيد على ضرورة المراجعة الداخلية لصالح المجتمع وبين القدرة على مواجهة المؤامرات الخارجية.
تجاوز الوعي السياسي الأردني ، مسألة الشخصنة والأشخاص ، إلى التفكير بالنهج والغايات والوسائل. وتقترح جميع الأصوات الوطنية ، سواء أتلك المسجلة في وثائق أو المؤكدة في حوارات ، نهجا بديلا يقوم على المواءمة بين الضرورات الاقتصادية والضرورات الاجتماعية ، في سياق تأكيد قوة الدولة الوطنية ودورها.
أنها صورة أخرى من مكر التاريخ ، حيث يقود التسريع في اتجاه ما إلى ترسيخ عكسه . فالحقائق الاجتماعية لا تصنعها أقليات إرادية أو قوة أجنبية مهما عظمت ، بل يصنعها التاريخ الاجتماعي للدولة ، وإرادة شعبها.