*
خلال شهر واحد من السجال الوطني المحتدم، قطع المجتمع الأردني في مجال تطور الوعي الاجتماعي ــــ السياسي، خطوات لم يقطعها في مسيرته القلقة منذ ما سُمّي «التحول الديموقراطي»، سنة 1989. سنتذاك، فرضت هبّة شعبية في الريف تغييرات في نمط الحكم وتوسيع قاعدته لتشمل نخباً كانت مستبعدة، وخصوصاً من المثقفين والتكنوقراط والمعارضين المحسوبين على الاتجاه القومي والشيوعي التقليدي.
وساهمت تلك النخب المستوعَبة، على مدى عقدين، في موت الحياة السياسية، وتفكّك الوعي الاجتماعي الوطني، واستخدمت نفوذها المعنوي في تبديد الزخم النضالي الشعبي ضدّ المشروع الليبرالي الجديد. لكن الفرز الاجتماعي الحاد الذي تبلور في البلاد وانكشف بحدة مع مطلع العام الحالي، تحت وطأة تعويم أسعار المشتقات النفطية وما تلاه من انفجار تضخمي وركود عميق، وضع النخب أمام اختيار حادّ، وبدأ يكوّن خندقان في البلد الذي يواجه، أيضاً، مخاطر خارجية عاجلة تتناول كيانه الوطني ذاته.
لقد كان مدهشاً ما يمكن أن تصنعه صحيفة يومية مستقلة واحدة («العرب اليوم») في إعادة ترتيب «الأجندة» الوطنية على أولويات القضية الاجتماعية ــــ الوطنية، مثلما كان مدهشاً أن تتمكن حركة يسارية وليدة، هي حركة اليسار الاجتماعي، من فرض خطابها، مضموناً واصطلاحاً، على السجال الوطني.
فبمناسبة عيد الاستقلال (25 أيار)، بدأت حركة اليسار الاجتماعي الأردني حملة مكثفة ضدّ الليبرالية الجديدة ومشروع الوطن البديل. وقد كسرت هذه الحملة جدار الصمت عن الغضب الشعبي، وشجعت قوى اجتماعية عديدة على التعبير عن نفسها بوضوح في بيانات أبرزها «نداء أهالي معان»، والبيان الصادر عن 150 شخصية عامة، في مقدمهم رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات، والموقف الذي أصدره شيوخ عشائر البادية، بالإضافة إلى عشرات اللقاءات والمواقف التي ركزت على رفض السياسات الاقتصادية الليبرالية المتوحشة وبيع الممتلكات الوطنية، والفساد، وتراجع دور الحكومة المركزية لمصلحة مراكز القوى، والتحايل على الدستور والقانون، وأخيراً الرفض الحازم لأية صيغة من صيغ الخيار الأردني على المسار الفلسطيني.
وكما يحدث عادة في المفاصل التاريخية الحادة، لا تتكوّن الجبهات على أساس أيديولوجي فائت أو بالاستناد إلى الخبرات السابقة. فبينما وجد الإسلاميون أنفسهم خارج صراع من نوع جديد، اجتماعي المضمون، ولا يملكون الرؤية أو الأدوات لخوضه، اعتصم الشيوعيون المسجلون والبعثيون بالصمت الكامل إزاءه، وانتقلت بقايا اليسار الفلسطيني إلى تأييد علني لليبرالية الجديدة.
أما القسم الرئيسي من المثقفين وأنصاف المثقفين من الكتّاب والأكاديميين والصحافيين والنقابيين المهنيين، فتراوحت مواقفهم بين الصمت والغياب، والانخراط الذليل في حملة مكارثية ضد منابر التعبير المستقلة، مثل صحيفة «العرب اليوم» وبعض المواقع الإلكترونية، كما ضدّ بؤر المعارضة البيروقراطية والبورجوازية المحلية التقليدية والعشائرية وحركة اليسار الاجتماعي الوليدة.
وإذا كان المجتمع الأردني لم يستطع بعد أن يبلور بصورة ملموسة قياداته اليافعة التي ستقود المرحلة المقبلة من نضاله، فإن شيئاً ما حدث على مستوى الوعي الاجتماعي، انتقل بالأغلبية للتوافق على تصوّر مشترك لما يجب أن يكون عليه الأردن، وطناً ودولة. وهو بحد ذاته إنجاز نوعي.
ولا يعود الفضل في ذلك الإنجاز إلى النشاط الفكري والسياسي التقدمي، على رغم ما حققه أخيراً من فعالية، ولكنه يعود إلى الليبراليين الجدد أنفسهم. فمن خلال بلورة برامجهم المتوحشة وتسريعها في الخصخصة، وبيع الممتلكات العامة وتفكيك بنى الدولة الاقتصادية والاجتماعية، حصل ما يمكن وصفه بالإجماع الوطني المضاد. فالأغلبية الساحقة من الأردنيّين أصبحت تلتقي على خطاب ديموقراطي ــــ اجتماعي. وها هي الوطنية الأردنية تكتسب، للمرة الأولى، مضموناً أيديولوجياً، يقرن الوطنية بالدولة والقطاع العام والمؤسسات الدستورية والعدالة الاجتماعية.
وفي مجابهة تحالف الكمبرادور مع الرأسمال الأجنبي، نشأت وطنية جديدة تنطلق من التحالف الاجتماعي للأغلبية التي تضم الكادحين في الريف والمدينة والبادية، والعشائر، والعاملين بأجر، والفئات الوسطى، والمهنيين، والمثقفين، والبورجوازية التقليدية المحلية وبيروقراطية الدولة وأجهزتها. وبالمعنى التاريخي، فإن المجتمع الأردني تمكن من إعادة تعريف نفسه كمجتمع متعاضد يستعيد جذوره المساواتية التقليدية، ولكن في صيغة دولتية.
وفي قفزة إلى مستوى الوعي السياسي، أخذ الخطاب الأردني يتجه إلى التركيز على الربط بصورة جدلية بين البرامج الاقتصادية الليبرالية الجديدة والمخاطر التي تحيق بالكيان الوطني. وخصوصاً أن التفاهم القائم بين الليبراليين الجدد المحليين، والمحافظين الجدد الأميركيين، والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، أصبح ظاهراً للعيان. في 4 تموز الماضي، نشرت صحيفة «القدس العربي» اللندنية، وهي تتمتع بصلات مع كواليس القرار في عمان ورام الله، تقريراً أفاد بأن «الأردن دخل على خطّ المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية» في اتجاه اتفاق ثلاثي على دولة مؤقتة في قسم من الضفة الغربية، تنضم إلى الأردن في «المملكة الأردنية الفلسطينية الهاشمية». وهي الأطروحة التي تضمنتها وثيقة (رئيس الديوان الملكي الأردني) باسم عوض الله، (وكبير المفاوضين الفلسطينيين) صائب عريقات، وتلقى دعماً أميركياً وتستجيب لرغبة إسرائيلية جامحة.
إلا أنّ ردود الفعل الشعبية الأردنية الحاسمة، المدعومة من أوساط وطنية داخل أجهزة الدولة، تبعث برسالة واضحة من الرفض، بل الاستعداد لمجابهة خطة كهذه ولو بالقوة. وقد نجحت الضغوط، بالفعل، في نقل الملف الفلسطيني من كواليس عوض الله الغامضة، إلى جهاز الاستخبارات الذي يتخذ موقفاً صارماً من مشروع الوطن البديل.
وفي الوقت نفسه، استعادت الحكومة المركزية قدراً أكبر من صلاحياتها الدستورية في الولاية العامة. واللافت للنظر هو الانقلاب الحاصل في موقع الليبراليين والأمنيين وموقفهم من الحريات. فخلال الأزمة الأخيرة، طالب الليبراليون بإلحاح، بإغلاق صحيفة «العرب اليوم» المستقلة واعتقال صحافيين ونشطاء سياسيين يساريين، بينما رفضت الاستخبارات العامة هذه المطالب، مؤكدة أنها على مسافة واحدة من أطراف الصراع السياسي، وأنها «استخبارات دولة لا دولة استخبارات».
إنّها صورة أخرى لمكر التاريخ، حين يقود التسريع في اتجاه ما إلى ترسيخ عكسه، وحين يفرض هجوم شرس من نوع جديد على المجتمع تجديد الاصطفاف السياسي، نوعياً، بحيث يخترق الأيديولوجيات والمواقع القديمة، والموالاة والمعارضة، إلى تكوين جبهة وطنية من أفرقاء غير متوقعين ومتعارضين، بينما ينخرط في الخندق المعادي للوطن، أفرقاء كانوا محسوبين على الخندق الوطني.
* كاتب وصحافي أردني
مكر التاريخ: المجتمع الأردني يتجدّد مستبقاً انهيار دولته
Posted in Uncategorized.