ناهض حتّر
انتظرنا بشغف مداخلة الاستاذ محمد حسنين هيكل حول الحرب اللبنانية – الاسرائىلية. كنّا نتوقع معلومات جديدة واختراقاً في التحليل من الصحافي العربي الاشهر الذي التقته «الجزيرة» في حلقتين، من دون ان يمنحنا شيئاً ذا اهمية خاصة، بل انه ربما قصّر عما هو متاح ومتداول من معلومات وتحليلات.
كانت محاورة هيكل، السيدة جمانة نمور، فاشلة في ادارة الحوار، وفي استنطاق «الرجل غير العادي» حول المفاصل غير العادية في الاحداث في سياق رؤية هيكل بالذات. وماذا فعلت الحرب بهذه الرؤية: هل اكدتها ام قوّضتها ام خربطتها؟
غير ان فشل توقعاتنا من هيكل، يعود، رئىسياً، الى التطور العاصف الحاصل في ميدان التغطية الاعلامية. وهو تطور نعيشه، ولكننا لا نلاحظه بصورة كافية، او قل: لانفكر فيه جدياً.
وفي تجربة الحرب اللبنانية – الاسرائىلية الاخيرة، بلغت التغطية الاعلامية في الفضائىات – وخصوصاً «الجزيرة» – والصحافة والمواقع الالكترونية، مَدَيات غير مسبوقة. وقد تمتع المراقب العادي – من دون ان يكون له صلات عالمية او ذكاء باهر او حتى المعرفة بلغة اجنبية – بالحصول على قدر هائل من المعلومات والآراء والمواقف والتحليلات. بل ان اسرار التخطيط الامريكي – الاسرائىلي للحرب، اُتيحتْ للجمهور في اليوم التالي لوقف العمليات الحربية، في تقرير سيمون هيرش، الذي ترجمته ونشرته وسائل الاعلام العربية – وبينها صحيفة «العرب اليوم» – على الفور.
اعني انه لم يعد لأي صحافي – مهما علت مكانته – بل ولأيّ سياسيّ – مهما كان مطلعاً – اية ميزة على المراقب العادي، اذا كان الاخير مهتماً ومثابراً.
حتى المعلومات العسكرية التقنية حول الحرب، اُتيحتْ على نطاق واسع، ولمن اراد: بالتفصيل وبالشروحات الفنية الموثقة في مواقع الكترونية متخصصة.
الحراك السياسي في اسرائىل – اثناء الحرب وبعدها – بما في ذلك التعليقات الصحافية والآراء والمواقف والتحليلات – كان، وما يزال، على مرأى من المراقب العادي، بالايجاز الكافي او بالتفصيل الممل في عدة مواقع الكترونية.
التحليلات الرئيسية، الميدانية والاستراتيجية، هي، ايضاً، اصبحت ملكاً للجمهور الواسع، بالصوت والصورة او بالكلمة المكتوبة.
بالمحصلة، فان توقعاتنا من هيكل، تنتمي الى عالم قديم انتهى.
فعالمنا اليوم شفاف بحيث يستطيع الرجل العادي ان يراه، ويلاحظه، ويتأمله، من دون الحاجة الى انموذج الصحافي الكبير، ذلك الذي كان قادراً – من بين قلة – على الحصول على المعلومات، وتنظيمها، وتحليلها، كاشفاً «الاسرار»، وقادرا على التنبؤ .
الانتصار الحاسم لثورة المعلوماتية، في تجربة واقعية، هو ما يمكن للمرء ان يستنتجه من تلاشي الهوّة بين ما يعرفه «الكبار». وما يعرفه «الصغار» في عالم اليوم تماماً.. مثل تلاشي الهوة بين التكنولوجيا العسكرية للجيوش التقليدية الكبيرة، والتكنولوجيا العسكرية المضادة عند المليشيات ومقاتلي حرب العصابات.
وعند هذا الحدّ – مهما كان مداه – نلاحظ ان «اكتشافنا» هذا – مهما كان حاسماً – لا يلغي، بالطبع، الاهمية الاستثنائىة لمداخلة صحافي في حجم هيكل حول الحدث الضخم الذي عشناه ونعيشه في المنطقة. فالمهم هنا، هو ما يبقى بعد كل ذلك، اعني: الرؤية.
وليس غريباً ان يتمتع هيكل برؤية استراتيجية للمشهد الشامل بعد الحرب. فهو يلاحظ ان النظام الاقليمي كلّه قد انهارت عناصره الاساسية المكونة من «نظرية الامن الاسرائيلي ونظرية الامن الامريكي ونظرية التأمين العربي» حيث تقوم قوة الردع الاسرائىلية باخضاع العالم العربي للسيطرة الامريكية القائمة على شبكة من الانظمة التابعة التي تمارس السياسة الخارجية من خلال وساطة واشنطن مع تل ابيب، لضمان الامن وتوسل الحقوق من الوحش الاسرائيلي.
ولقد سقطت هذه العناصر، دفعةً واحدةً، اولاً، لأن «الوسيط» هو الذي يستخدم هذه المرة، قوة الردع الاسرائىلية صراحة، وثانياً، لأن النظام العربي الرسمي انتقل من موقع «التوسط» و«التوسل» الى موقع الاندراج في خطة امريكية – اسرائىلية، لتحقيق «اهداف مشتركة» وثالثاً لان قوة الردع الاسرائيلية، فشلت في تحقيق هذه الاهداف، بل تلقت هزيمة ميدانية فادحة.
بذلك كله – ومفاعيله – سقط الستاتيكو السياسي القائم في الشرق الاوسط، وانفتحت ابواب التاريخ على مصراعيها. الحرب لم تنته.. لقد بدأت الآن. وهذا ما يجعل هيكل غاضباً ومرتبكاً ومذعوراً.
كيف ولماذا؟ سنتابع غداً