ناهض حتّر
يلاحظ جهاد الزين في «النهار» -الثلاثاء الماضي- أن الخسارة الامريكية الاكبر في الحرب على لبنان، قد تم تسجيلها فعلا. فلبنان هو البلد العربي الوحيد الذي تمكنت واشنطن فيه من النجاح النسبي في استقطاب نخبة واسعة قادرة على حشد جماهير وراء الدعاية الامريكية، فيما سمّي «ثورة الارز» في 14 اذار 2005 وما تلاها.
ويعد الزين ما سماه تخلي الولايات المتحدة عن لبنان، والسماح بتدميره، -اي الانتقال من الوسائل «الديمقراطية» الى الوسائل الحربية في تحقيق البرنامج الامريكي للبنان -خيانة لنخبة 14 اذار، سوف تدفعها الى التفرّق واليأس والهجرة. لكنه اغفل ان بعض هذه النخبة، وبعض جماهيرها، قد التحق او بدأ الالتحاق بالمعسكر المضاد، بالمعنى الخاص (المقاومة) وبالمعنى العام -اي النزعة الثقافية المعادية لامريكا.
لقد تابعنا، بانتباه، خلال الاسبوعين الماضيين، ما يشبه انتفاضة «عودة الوعي» اللبناني العروبي، تسرب، بتسارع يسابق العدوان الاسرائيلي، في اوساط النخبة والشبيبة المسيحية في لبنان. لقد اصبحت مواقف التضامن الوطني ووحدة لبنان والعداء لاسرائىل وامريكا، وحتى التأييد العلني والعاطفي لحزب الله، شيئا مشرفا بالنسبة لابناء طائفة كان قد جرى اختطافها من العروبة في اواسط السبعينيات، والحاقها بالمشاريع الامريكية والاسرائىلية والهوس الانعزالي.
هل يسترجع مسيحيو لبنان، دورهم التاريخي المعروف في نهضة الحركة القومية العربية؟
آمل ان يحدث ذلك، واعوّل عليه -اولا- في استدراك المجتمع اللبناني لذاته من وهدة الميركنتيلية «في صيغتها العولمية»، واخلاقها الفردية الانانية الى النزعة المثقفية، وادراك دور لبنان الخاص في التقدم العربي. واعوّل عليه -ثانيا- في علمنة ودمقرطة وتحديث عروبة جديدة، منفتحة وتعددية وتقدمية، ثقافيا وسياسيا. وباختصار، اسأل عما اذا كان ممكنا الان تجديد «المارونية الثقافية» ذات التأثير العربي الفريد في النصف الثاني من القرن 19 وذلك على انقاض «المارونية السياسية» البائسة، وبقاياها السائدة -في طريق مسدود- وراء التحالف الطائفي المتأمرك بقيادة البترودولار؟
مسيحيو لبنان، ليسوا، اذا، طرفا في الاشكال الاهلي في البلد المهدد، امريكيا، «بالتعريق» اي بجعله عراقا آخر للاحتراب الشيعي -السني. لكن، هنا في لبنان، على عكس العراق، تسعى الحرب الامريكية-الاسرائىلية الى تهميش «الشيعة» واختطاف «السنة» الى التأمرك، والى دور خاص في تقويض سورية، وانجاح المشروع الامريكي في المنطقة، القائم -كليا- على اساس التفتيت الطائفي والمذهبي والاثني.
واذا كان تقديرنا صحيحا بان اغلبية مسيحيي لبنان قد ذهبت او وجدت نفسها، موضوعيا، في خندق المقاومة، نستطيع الاستنتاج بان لبنان كله ذاهب الى الخندق نفسه. ففي لبنان، حيث الطوائف مؤطرة سياسيا بصورة صلدة، ظل النخبويون -من كل الطوائف- يتمثلون النخبة المسيحية -والمارونية خصوصا- في النزعة الثقافية العامة.
ولعل انزلاق هذه النخبة الى الانعزالية العدوانية -خلال الحرب الاهلية- فإلى الانعزالية المهزومة اليائسة -بعدها- فإلى العدمية والتأمرك والالتحاق بزعامة البترودولار اخيرا، هو ما اعطى لبنان صورته التي ظلت ثقافة المقاومة -بدعم قوة المقاومين- على هامشها، برسم الالغاء.
الان، هل جاءت اللحظة التاريخية للتمرد الجماعي على صورة لبنان المعروفة، في لهيب القرار التاريخي للمقاومة الاسلامية بالتصدي للعدوان -المشروع الامريكي الاسرائىلي – حتى النهاية، بل قل حتى البداية، بداية الخلاص؟
بغض النظر عن النتائج الميدانية للقتال الدائر، فان هذا السؤال مطروح. فلبنان، بعد 12 تموز ،2006 لن يكون هو لبنان قبله -ليس بالاتجاه الذي تريده وزيرة الحرب كوندوليزا رايس، بل بالاتجاه المضاد. فمعركة العقول والقلوب هي المعركة الرئيسية. وقد كسبها المقاومون في لبنان.. والعالم العربي كله..
تأملوا، فقط، هذه الارقام التي طلع بها استطلاع الرأي الذي أجراه أحد مراكز الدراسات اللبنانية المستقلة: 80 بالمئة من المسيحيين في لبنان يؤيدون المقاومة، و 88 من السنة، و 56 من الدروز، و 96 بالمئة من الشيعة.
نحن، اذن، أمام أغلبية لبنانية ساحقة وراء المقاومة. وهذه الاغلبية سوف تطيح بمعادلة 14 اذار داخل لبنان، وبمعادلات الانقسام الطائفي والمذهبي في المشرق العربي، وخصوصا في العراق.