مرة اخرى: المثقفون الاردنيون امام استحقاقات المستقبل«وطن نهائي» او الضياع النهائي

شيحان
ناهض حتّر
يشعر المثقفون الاردنيون الفاعلون في الحقل العام، بالتناقض الحاد بين الاسئلة التي يطرحها على وعيهم وفعاليتهم، السياق الوطني الواقعي الذي يتحدرون، شاؤوا ام ابوا-به-وبين عاداتهم الايديولوجية التقليدية (الاسلامية او القومية او اليسارية) وتنظيماتهم وممارساتهم السياسية المعتادة.
وهذا التناقض الحاد بين الوعي ومحدراته وتمظهراته وخطاباته، وبين الواقع السياسي الفعلي، يشل المثقف الاردني الملتزم، ويلجئه الى اليأس وقبول التهميش، والبحث عندما يكون ذلك ممكنا، عن ملاذ شخصي سام او غير سام، لا فرق.
ولدى المثقف الاردني الملتزم اجابات جاهزة على اسئلة غير مطروحة، بينما تلح عليه اسئلة اخرى بلا اجابات، فينتهي الى ارتمائه «خارج اللعبة» او يغدو اسيرا لها، وهو في الحالين صفر على الشمال.
والاسئلة الوطنية الفعلية تدور حول ثلاث مجموعات من القضايا المعلقة هي:
*المجموعة الاولى وترتبط بقضايا الاقتصاد الوطني، وقد وقع المثقفون الاردنيون في فخ القبول الجماعي بان ادارة الاقتصاد الوطني لها طابع فني مطلق -مثل المعالجة الطبية-بحيث استنكفوا طوعا عن ابداء الرأي في الشأن الاقتصادي. واثر فورة نقاش اقتصادي في اواخر الثمانينيات من القرن الماضي، توصل مديرو الاقتصاد الوطني الى اقناع الرأي العام بأن سياساتهم القائمة على الامتثال الكامل لمطالب صندوق النقد الدولي -المتواطئة مع المصالح المحلية للاثرياء -ليست موضع نقاش.
*ان السؤال الرئيسي -وهو سؤال سياسي بامتياز -عما اذا كانت ادارة الاقتصاد الوطني القائمة، هي المثلى ام لا مغيب كليا، بل ان كل مقاربة اجتماعية لهذه الادارة ومنطلقاتها وآلياتها محرمة مسبقا، طالما ان السياسات الاقتصادية تحولت الى ميثولوجية مقدسة طقسيات يمارسها كهنة اخصائيون، هم وحدهم القادرون على فك «طلاسمها».
*المجموعة الثانية من الاسئلة الوطنية هي المرتبطة بالهوية الوطنية للدولة الاردنية، وكينونتها وعصبيتها. وكل مناقشة لهذه القضايا التأسيسية ممنوعة بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية القائمة على الوجود «المؤقت» للاجئين والنازحين الفلسطينيين في الاردن.
*المجموعة الثالثة من الاسئلة الوطنية ترتبط بقضايا الاصلاح السياسي التي تغدو بالنظر الى منع الحوار في مجموعتي القضايا السابقتين، ليست ذات اهمية، فالاصلاح السياسي-وان يكن مطلوبا في ذاته، فان هدفه الجمهوري هو تمكين النخب السياسية والثقافية الفاعلة والجمهور العريض من المشاركة الحاسمة في القرار الوطني، ولكن ما جدوى هذه المشاركة، بالاساس، اذا كان من المستحيل القيام بأي فعل ايجابي ازاء القضايا الاقتصادية والوطنية.
*ان الاصلاح السياسي المعني باشكال ومسارات الممارسة السياسية، يغدو ناقلا اذا كانت السياسة ممنوعة الى اشعار آخر. وما جدوى الحاح المثقفين على اصلاح النظام الانتخابي مثلا، اذا كان شاغل المقعد النيابي، سواء أكان عشائريا او زعيما وطنيا، عاجزا عن مقاربة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والوطنية الاكثر اساسية.
* * *
*اذا كان المبدأ الثقافي الاساسي ينطلق من الايمان بأن الانسان هو الذي يضع تاريخه، ما يجعل من الممارسة السياسية ضرورة، فان المثقف الذي يتخلى عن حقه في مناقشة الشؤون العامة، بوصفها «محرمات»، يتخلى بالاساس عن وجوده الانساني، واذا كانت السياسة هي حقل صراعات تتم مع اعداء وخصوم وتحديات، لا مع اقدار لا راد لها… فالسياسة، اذن، ممكنة. والانسحاب منها هو انسحاب من المسؤولية الاجتماعية والوطنية.
دعنا، اذن، نحدد عددا من المبادئ التي لا غنى عنها من اجل استنهاض حوار وطني جذري ينتقل بنا من حالة اليأس والجمود والضياع الى وضع الوعي والمبادرة التاريخية:
*هوية الدولة: فلا دولة بدون هوية وطنية مؤطرة في سياق تاريخي واقعي. فهل نجرؤ على الخروج من حالة شقاء الوعي الوطني المنقسم بين عيشنا السياسي الفعلي واستيهاماتنا القوموية الى حالة الوعي «الدنيوي» المنسجم القائم على الاعتراف غير الملتبس بان الاردن هو «وطن نهائي» للاردنيين، وهذا لا تمس، حتما، بالطابع العربي -الاسلامي للهوية الاردنية، ولكنه يحددها في سياق سياسي فعلي لا يعود مقبولا معه العيش في وطن معلق على استيهامات ايديولوجية من اي نوع، ولا التطاول على الثوابت الوطنية بحجة انها متغيرات او صنع الحوار حول المتغيرات بحجة انها ثوابت الاردن وطن نهائي للاردنيين: يكتشفون ماضيه، ويقرأون حاضره، ويرنون الى مستقبله، بوصفه تكوينا اجتماعيا- تاريخيا واقعيا، وحقيقة سياسية. هذا هو معنى «التأريخية» التي، بدونها، لا معنى لنشاط المثقف المناضل الذي لا يقبل الوقوف مشلولا امام «المحرمات».
والاقدار! في سياق كهذا سوف تظهر قضية اللاجئين والنازحين في الاردن مجردة من ظلالها الحساسة، بوصفها قضية سياسية «دنيوية»:
اللاجئون والنازحون جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، ان وطنهم النهائي هو فلسطين، على انه من واجب الاردن ان يستضيف من لا يستطيع العودة منهم الى وطنه حتى يستطيع، وعلى ان تكون لهم، في ظل السيادة الاردنية، حرية التعبير عن هويتهم الوطنية، وحرية النضال من اجل العودة.
*اولوية السياسة: والتكوين الوطني الذي اعترفنا بواقعيته للتو هو نفسه حقل صراعات اجتماعية، فهو اذن حقل للنشاط السياسي بوصفه فعلا اجتماعيا-وطنيا. وهكذا لا يعود الاقتصاد الوطني، والتربية والتعليم، والادارة الخ حقولا فنية للكهنة الاخصائيين، بل حقولا عامة لصراع المصالح والارادات، ان لدينا اهدافا وطنية تتمحور حول زيادة الانتاجية وعدالة التوزيع في اطار نهضة تنموية واجتماعية سوف نناقش شروطها وآلياتها بدون اطر مسبقة سواء أكانت ناجمة عن «التزامات» ازاء صندوق النقد الدولي ام لا، او ناجمة عن قناعات ايديولوجية مسبقة ام لا.
المبدأ الاساسي هنا ان ادارة الاقتصاد الوطني هي، بالدرجة الاولى، عملية سياسية، وهي، بالتالي، شأن يخص كل القوى الاجتماعية الفاعلة، ما يجعل الاصلاح السياسي الذي يتيح لهذه القوى، المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرار الاقتصادي-الاجتماعي– التربوي… ممكنة وخصبة.
*الاستقلال: والاستقلال عملية مستمرة، وليس فعلا انجز ذات مرة وانتهى. اننا نواجه مسؤولية صنع الاستقلال بدون توقف، بالسيطرة على العلاقات الخارجية وتوظيفها لخدمة النهوض التنموي الوطني لا العكس، الاستقلال لا يعني القطيعة، ولكنه يعني التحزب للمشروع الوطني، والذود عنه. فالحوار يجري، اذن، حول اذا ما كانت السياسات الخارجية المتبعة تخدم المشروع الوطني ام لا. وهو حوار مفتوح، ليس فيه «محرمات» او اقدار، بل مسؤوليات لا بد من اتساع دائرة القائمين بها بحيث تشمل اوسع القطاعات الشعبية.

Posted in Uncategorized.