صدمني محمد فضل الله («الأخبار»، الجمعة 24 تموز 2015) باقتراحه، صراحة، برنامجاً امبريالياً لإيران في المرحلة المقبلة؛ إنه يتطلّع إلى «تفكيك الغرب وإعادة تركيبه»؛ اللعب بالهويات، وتمزيق المجتمعات، والاستثمار في الحروب الأهلية… إلى آخره ما يدفع المرء إلى فرك عينيه، لكي يتأكد من أن ما يقرأه هو فعلاً المكتوب، وأنه ليس مقاربة هزلية.
من الواضح أن نشوة فضل الله، الناجمة عن تمكّن إيران من التوصل إلى تسوية متوازنة حول برنامجها النووي، قد أصابته بالدوار، فسعى إلى منتجات الفكر الإمبريالي الرجعي المعادي للإنسانية والمجتمعات البشرية، لكي يقترح الذهاب من التفاوض على النووي إلى «التفاوض على العالم».
يقول فضل الله، ملخّصاً مقاله بدقة: «في أية مفاوضات مستقبلية، ستُقايض إيران على مكتسبات حول العالم، خارج الشرق الأوسط. رؤية إيران الجيو-سياسية للعالم ستَنتظم وفق مقاربة جديدة، فلسفية-تكنولوجية: برنامج الفضاء هو الاستراتيجية المقبلة بعد البرنامج النووي، الاستثمار في تفكيكٍ ما بعد حداثي للهويات هو المنهج».
لن أتوقف طويلاً عند الأوهام، فإيران، على رغم ما حققته من إنجازات معترف بها، لا تزال دولة عالمثالثية، لم تستطع، حتى الآن، إنجاز منظومة إنتاجية قومية مستقلة، قادرة على المنافسة دولياً. وليس أمامها، في الواقع، سوى خيارين هما (1) التعاون مع مجموعة «البريكس» للتوسع الاقتصادي، والانضمام إلى منظمة «شانغهاي» لتحسين قدراتها الدفاعية، وضمان أمنها القومي واستقلالها، واستقلال سياساتها الخارجية المعادية للإمبريالية، (2) الانخراط في منظومة الرأسمالية الامبريالية. وهو انخراط يسمح لبلد في حجم إيران بالنموّ، ولكن من موقع تبعي يفرض شروطه، لا على السياسات الخارجية فقط، ولكن، أيضاً، على السياسات الداخلية، من حيث نمط النمو وتوزيع الثروة… الخ.
لا تزال الصين، بجبروتها الاقتصادي والعلمي والدفاعي والديموغرافي، غير قادرة، موضوعياً، على فك الارتباط مع الرأسمالية الامبريالية. وهي تنخرط، مع روسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا في مجموعة «البريكس» التي تسعى، على مدى زمني غير ممكن التحديد بعد، إلى إنشاء بنى تجارية ومالية وتقنية تسمح لها بالخروج من المنظومة الرأسمالية الامبريالية؛ فما بالك بإيران؟
على كل حال، ليس ما يهمّنا هنا هو معالجة أوهام فضل الله، بل الأفكار الشيطانية التي يقترحها على الإيرانيين، استناداً إلى منهج «ما بعد الحداثة»، الاستعماري الرجعي؛ فما بعد الحداثة هو منهج لا يتجاوز الحداثة (منظومة القيم الإنسانية والتقدمية والديموقراطية الاجتماعية والعلمانية وتعزيز الإنتاجية وتوظيف القوى المنتجة في منظومة اقتصادية ـ اجتماعية مترابطة) وإنما يعمل ضدها. وما بعد الحداثة، منهج يمكن، من خلاله، التوصّل إلى منجزات في الثقافات والمجتمعات؛ ولكن نقل هذا المنهج، من قاعات الجامعات إلى دوائر الاستخبارات، أي استخدامه لأغراض توسعية، وتحويل الثقافات والمجتمعات إلى مختبرات للتجارب الاستعمارية، هو عمل عدواني همجي فظيع، لا يقلّ همجية عن المشروع التكفيري، ولكنه يحل الخطط الثقافية الاستخبارية، محل المتفجرات، وتغيير ما في الرؤوس، بدلاً من قطعها. إنه يستهدف، في الواقع، تخريب العالم. يقول الكاتب: «نظراً لمحدودية الموارد، ستَبذل إيران جهداً أكبر في رسم خريطة للتوترات التي يمكن الاستثمار فيها بفعالية أكبر وتكاليف أقل». وسنكتشف أن ما يفكر فيه الكاتب، ليس سوى التأسيس للحروب الأهلية، الثقافية ـ الدينية، على مستوى العالم.
انظروا، تالياً، بعض اقتراحات فضل الله على الإيرانيين:
ـ ضمان أمن إسرائيل مقابل الحصول على تقنيات فضائية؛ يقول الكاتب «يمكن لإيران مقايضة أمن إسرائيل (أو غيرها) بمكتسبات خارج الشرق الأوسط؛ كمثال، المقايضة على الأسهم أو الهيكل الإداري لشركة تَعمل في حقل الفضاء ومتمركزة في الولايات المتحدة أو شرق آسيا». ومن الواضح أنه يمكن إعادة قراءة الفقرة السابقة، كالتالي: «ضمان أمن إسرائيل مقابل الحصول على تقنيات فضائية…».
من المعروف وجودتيارات
تعاني من التطلّع الاستعماري لدى كل القوميات
ـ توطين اللاجئين الفلسطينيين في سورينام في أميركا الجنوبية لإنشاء دولة مسلمة في القارة، تحقق المصالح الإيرانية. (يتمثّل الكاتب، هنا، نموذج الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإنشاء دولة إسرائيل). يقول الكاتب: «ملف اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يُثمَّر بمكتسبات استراتيجية. سورينام في أميركا الجنوبية تعدّ خارج النسيج العرقي الثقافي للقارة الأميركية عموماً. هم يتكلمون الهولندية، وتعود جذورهم في الغالب إلى جنوب شرقي آسيا، وهو ما جعل عشرين في المئة من السكان مسلمين. طبعاً، عدم وجود بلد مسلم في قارة كبيرة كأميركا هو خلل استراتيجي بالمعايير كافة. إذا نُقِل اللاجئون الفلسطينيون إلى هناك سيكون ذلك استثماراً استراتيجياً في القارة الأميركية. بالمناسبة، سورينام بلد غني بالموارد، ويقع على حدود غويانا الفرنسية، مركز إطلاق برامج الفضاء الأوروبية».
ـ تسليح منظمات تابعة. يقترح الكاتب ما يلي: «يمكن لإيران تمويل وتسليح إحدى مجموعات الدفاع الذاتي المكسيكية (المحبوبة من قِبَل الشعب) لمواجهة عصابات المخدرات، بحيث يصبح لديها حليف مسلّح على حدود الولايات المتحدة ذا شرعية شعبية، نوع من حزب الله في المكسيك»! ليست القضية المدعومة مهمة أو شرعية، بحد ذاتها، عند فضل الله، ولكنه يبحث، كأي مثقف استعماري، عن واجهات للتدخل في البلدان الأخرى.
ـ التأسيس لحرب أهلية مذهبية في فرنسا. يقترح الكاتب: «في فرنسا، مساعي إيران لتشييع المغاربة لم تجرِ بالسهولة المفترَضة؛ المقاربة التبشيرية محدودة الفعالية إذا لم تَقترن بمشروع سياسي يَستثمر في التاريخ والثقافة الفرنسيتَين. يمكن دعوة الكنيسة الإنجيلية البرازيلية إلى تحويل المغاربة في فرنسا إلى البروتستانتية؛ لن يؤدي ذلك إلى دينامية مغاربية مختلفة داخل فرنسا فحسب، بل أيضاً سيُعيد إحياء الهوغونوت الفرنسيين «Huguenot» الذين احتلّوا الجزء الأكبر من جنوب فرنسا، وبالتالي إحياء التوتُّر التاريخي بين شمال وجنوب فرنسا».
ـ دعم تهويد الصين لتقسيم العالم الصناعي. يقول الكاتب: «بما أن الصينيين باتوا معجبين باليهود، فإن نشر اليهودية في الصين من خلال السابوتنيك (كونهم متحولين إلى اليهودية بدورهم) سيمكِّن الصين من ادعاء وراثة الولايات المتحدة حضارياً وليس فقط اقتصادياً، وسيَقسم الغرب إلى غرب كاثوليكي ــ بروتستانتي وغرب يهودي».
■ ■ ■
في المساحة السوداء بين جنون العظمة والأفكار الشيطانية، يفكّر فضل الله في النموذج الاستعماري الأليق بإيران، ويرى أن عليها أن تحتذي حذو الامبريالية البريطانية، لا الألمانية، فتذهب إلى السيطرة على العالم، بدلاً من السيطرة على الإقليم؛ فالنفوذ الإيراني العالمي سوف يضمن لطهران النفوذ الإقليمي، وليس العكس. يقول الكاتب: «مارست الإمبراطورية البريطانية فنّ تقسيم الإثنيات وحكمها، والتحدّي أمام إيران اليوم هو تحويل هذه الممارسة إلى منهج علمي يَعتمد على أدوات ما بعد الحداثة لتفكيك الهويات وإعادة صياغتها». التطلع العالمي المقترَح من فضل الله على إيران، هو، إذاً، تطلّع استعماري صريح يقتضي أن تقوم إيران بمنح «الأولوية للاستثمار حول العالم، خارج الشرق الأوسط، وستَضع في أقصى تصوُّرها برامجَ الفضاء. هكذا يصبح الفضاءُ ناظمَ عملها السياسي، كما كانت القدس ناظمة مشاريع إيران الإقليمية خلال الثلاثين عاماً الماضية». الفضاء بدلاً من القدس، وضمان أمن إسرائيل بدلاً من إزالتها، واستخدام اللاجئين الفلسطينيين كبؤرة توتير في أميركا الجنوبية، بدلاً من النضال لإعادتهم إلى ديارهم… يسمح ذلك كله بتجاوز عقدة إسرائيل، والتفاوض مع اليهود على اقتسام العالم، اليهود من «الأشكيناز الروس». هؤلاء الأفيد لإيران، ذلك أنهم ليسوا غربيين ملحدين وعلمانيين كالأشكيناز الأوروبيين، ولا متدينين متشددين كاليهود السفارديم، بالإضافة إلى أنهم يشكلون قوة رئيسية وبازغة. التطلع الإيراني إلى العالمية يعني التطلع إلى اليهود، حكّام العالم!
وتبقى لدي ثلاث ملاحظات هي: أولاً، أنه من المعروف وجود تيارات تعاني من جنون العظمة والتطلع الاستعماري لدى كل القوميات. وهما نتاج تضافر الأزمات والتطرف السيكولوجي الناجم إما عن عقدة التفوّق (كما لدى الغرب) أو عقدة الدونية (كما لدى الشعوب المقهورة)، والبعد السيكولوجي، هنا، له علاقة جدلية بالانتماء والشعور بالذات القومية الخ. وعلى حد علمي، فإن محمد فضل الله هو عربي لبناني وليس إيرانياً، فمن أين واتته هذه السكيوبائية القومية الخادعة بحيث يكتب كقومي إيراني؟ أخشى أنه عَرَض عقدة الدونية المضاعفة لدى قسم من المثقفين الشيعة اللبنانيين، تنطوي على سحق الذات (الخائبة) والتماهي مع القومية الإيرانية (الصاعدة). ثانياً، يظل مثقف الإسلام السياسي رجعياً، حتى حينما يخرج من إطار التراث الماضوي إلى فضاء الفكر الحديث، فهو، عندها، ينتقي من ذلك الفكر منتجاته الرجعية، فما بعد الحداثة يساوي، في العمق، ما قبلها. ثالثاً، كأن مثقف الإسلام السياسي لا يستطيع الفكاك من النظرة العدائية للعالم، فالإخوان المسلمون هدفهم النهائي «استاذية العالم»، وورثتهم من التكفيريين الإرهابيين، هدفهم تصفية العالم كله دونهم، ومحمد فضل الله يسعى إلى «تفكيك العالم وإعادة تركيبه». وهو يلاحظ، عن حق، أن الاتحاد السوفياتي لم يحز تلك الدينامية. بالطبع، فاتحاد الجمهوريات الاشتراكية، لم يكن، على عظمته وحجمه وقدراته النووية والفضائية والدفاعية استعمارياً، ولم يرد الاستاذية على الشعوب ولا ذبحها، ولا تفكيكها وإعادة تركيبها، بل كان تطلعه العالمي، ككل تطلّع اشتراكي، ذا طابع أممي يقوم على الاعتراف بالشعوب والمجتمعات وبثقافاتها، ودعوتها إلى السلام والتنمية والاتحاد في مواجهة الاستعمار والاستغلال وتجّار بؤر التوتر والحروب.