يشعر المراقب لنقاشات السياسيين والكتّاب الأردنيين، بأنهم غارقون في زوبعة داخل فنجان محلي ضيق عاجز عن ادراك العلاقة الجدلية بين المحلي والإقليمي والدولي.
حتى التسعينيات، كنا نشكو من وضع معاكس؛ فقد كان اهتمام النخبة الأردنية منصبا على الخارج، مما أوجد ردة فعل وصلت إلى مغالاة مضادة، تعبر ، في بعض أوجهها، عن برنامج فصل الأردن عن محيطه العربي والإقليمي، وربطه بالمظلة الإسرائيلية ـ الأميركية، بوظيفة وطن بديل.
يعيش بلدنا اليوم لحظة حرجة من إعادة تشكّل اقليمي دولي:
أولا، في جوارنا السوري تتجه التطورات نحو الحسم السياسي بالمصالحات المحلية وإعادة الدمج والانتخابات الرئاسية؛ النظام السوري ينتصر، لكن سوريا تتغير؛ وهي تدخل مرحلة جديدة من حرب شاملة مع قوى إرهابية أصبح مطلوبا، على المستوى الدولي، التصدي لها؛ سيقوم الجيش السوري وحزب الله بهذه المهمة الملحة؛ فما سيكون تأثير كل هذه التطورات على موقع الأردن؟ نحن مهددون، أيضا، بالزحف الإرهابي، بينما ننشغل في مناقشات حول مزايا أبناء المتزوجات من أجانب! وما هو مصير اللجوء السوري إلى الأردن؟ وهل دخلنا في عملية توطين جديدة؟ .
يقترب الجيش السوري من الشروع في معركة درعا؛ فهل سيكون علينا ـ إذا لم نبادر إلى التنسيق مع السوريين ـ إلى استقبال آلاف الإرهابيين وعشرات الآلاف من اللاجئين الجدد بين عشية وضحاها؟.
ثانيا، في جوارنا العراقي، عملية سياسية وأمنية كبيرة وخطيرة للغاية؛ قد تتجه إلى إعادة صياغة المشهد العراقي في دولة جديدة مستقرة وتتجه إلى التحالف مع سوريا، والانخراط في عملية إعادة بناء إقليمية، أو قد تتجه نحو الانفراط والحرب الأهلية؛ تعتمد الإجابة ـ إلى حد كبير ـ على المصالحة السعودية ـ الإيرانية التي تلوح في الأفق.
الرياض وطهران مضطرتان إلى إجراء سلسلة من التفاهمات؛ بالنسبة للسعودية التي تقع تحت ضغوط التفاهم الأميركي ـ الإيراني وما تولده من ضغوط انفراط مجلس التعاون الخليجي، وجدت نفسها في طريق مسدود إلا من الثغرة الإيرانية، وبالنسبة لإيران، فإن علاقاتها مع السعودية لا غنى عنها للخروج من وضع العزلة المذهبية، وتدعيم التفاهم مع الولايات المتحدة، وتحسين شروط حلفائها في سوريا والعراق ولبنان؛ وفي لبنان تحديدا ربما تكون البداية بالتوافق على زعيم التيار الوطني الحر، ميشيل عون، رئيسا للبنان، لا يعبر فقط عن نقطة التقاء محلية واقليمية، بل يمنح بعبدا رئيسا قويا يوازي حجم المسيحية المشرقية التي وضعتها الحرب السورية على مائدة البحث الإقليمي والدولي.
ثالثا، وتنضج هذه العملية المعقدة في المشرق، بينما تتحضر مصر لرئاسة المشير عبدالفتاح السيسي الذي سيكون لنظامه ـ بغض النظر عن المشكلات الداخلية ـ دور إقليمي مهم، خصوصا كجسر بين الرياض ودمشق، والاتجاه إلى إعادة بناء النظام العربي على أساس هذا الثلاثي التقليدي.
رابعا، ويجري كل ذلك في سياق من التجاذب الدولي البالغ الخطورة بين واشنطن وموسكو. وهو تجاذب ـ مهما ارتفعت حدته من سوريا إلى أوكرانيا ـ فهدفه الواقعي هو التوصل إلى تفاهم حول حدود الصراع والمصالح؛ فالبديل عن التفاهم بين الجبارين ليس سوى حرب ساخنة لا يحتملها العالم.
فأين موقع الأردن من كل ذلك؟ من التفاهمات والترتيبات؟ أين سنكون في مجرى التحالف السوري العراقي، واحتمالية إعادة بناء النظام العربي بقيادة مصرية، وامكانية الشراكة الإيرانية ـ السعودية في إدارة الملفات الإقليمية؟ .
ثم ما هي آثار كل ذلك على القضية الفلسطينية التي سوف يُعاد طرحها في ضوء جديد، قد تكون له تأثيراته العميقة على الأردن، سواء لجهة تراجع الملف الفلسطيني إلى الجمود والنسيان أو البحث عن فرصة أو الاتجاه نحو تجديد المقاومة.
وأخيرا، لا آخرا، ما هي فرص الأردن في المشاركة في عمليات إعادة البناء الكبرى التي ستبدأ في المنطقة؟ وما هي السياسات الواجب اتباعها لتحسين شروط الأردن في مستقبل الإقليم الذي يتشكل اليوم بالنار؟.
كل هذه الملفات الكبرى التي يتوقف عليها مستقبل الدولة الوطنية الأردنية، لا تهم النخبة المحلية؛ فشل حزب كارنجي من سياسيين ونواب وصحافيين وجمعيات ما يسمى ‘ المجتمع المدني’ في أن يفرض على رئيس الوزراء، الدكتور عبدالله النسور، أجندة الاختراق التوطيني تحت شعار أبناء الأردنيات؛ فأصبح المطلوب الآن إنهاء ولايته! وكأن الأردن خارج الإقليم ( اللهم الدائرة الإسرائيلية) وخارج العالم ( اللهم الدائرة الأميركية التي ترانا من ثقي الباب الإسرائيلي) .. وكأن النسور، لا موازين القوى الاجتماعية الوطنية، هي التي أفشلت أجندة الاختراق التوطيني؛
أنبّه ، هنا، مَن لا يرون أبعد من أنوفهم، أن التحولات الإقليمية سوف تمنح للحركة الوطنية الأردنية، لأول مرة في التاريخ، وضعا إقليميا ودوليا، لم يعد ممكنا تجاهله؛ ليس فقط لأن الصراعات والتفاهمات تبحث عن الحلفاء في كل بيئة اجتماعية وطنية على مدى المنطقة، بل ، أيضا وأساسا، لأن الجماعة الوطنية الأردنية، أثبتت صلابتها وقدرتها على مواجهة التحديات وإدارة الأزمات ببصيرة استراتيجية تعلو على الزواريب المحلية… وهو ما لم تفهمه النخبة الليبرالية حتى الآن، وربما لن تفهمه.
رئيس وزراء جديد؟ لماذا؟ لكي يذعن لبرنامج كارنجي، أم لإدارة مصالح الأردن في إطار المستجدات العربية والإقليمية والدولية؟ هذا هو السؤال، وإلى أن تنضج الإجابة عليه، فإن الدكتور عبدالله النسور سيواصل الجلوس على مقعده المريح في الدوار الرابع.