ماذا يقول الشريك الاستراتيجي الأجنبي في البيروقراطي الأردني؟
ناهض حتّر
كان ممثل الشريك الاستراتيجي الفرنسي في إحدى الشركات الأردنية الكبرى، يتحدث، لدهشتي، عن ” الإمكانات الخصبة التي يتمتع بها البيروقراطي الأردني التقليدي”، مشيداً بصفاته المهنية والخلقية المميزة: “إنه ثروة”؛ وينبغي، من وجهة نظر المستثمر الأجنبي، تعظيم الإفادة منها لا تبديدها.
حسناً! فماذا يقول، إذن، “الليبراليون” المتحمسون من أعداء الدولانية… أمام هذه الشهادة من مستثمر أجنبي؟! أفليس السبب الرئيس للخضخضة، ولضرورة وجود الشريك الاستراتيجي الأجنبي… هو الخلاص من هذا “السد القديم” الذي يعرقل تدفق سيل الاستثمارات؟ ويحول بيننا وبين “الحداثة”؟ ويمنعنا من الخروج من قوقعة الأزمة الاقتصادية المزمنة إلى رحاب العولمة؟
انظروا: الشريك الاستراتيجي الأجنبي نفسه يقول: البيروقراطي الأردني كفوء، ويمكن توظيف عمله لتحقيق الأرباح المضاعفة! وهو يأخذ أقل مما يستحق على المستويين الدولي والإقليمي! وكل ما يحتاج إليه، ليلعب دوره الإنتاجي كاملاً، هو “التعزيز المعنوي” والخلاص من حالة الشعور بالهزيمة!!
البيروقراطية الأردنية، الآن، مثقلة بالهجمة الشرسة التي حاولت، وتحاول، أن تفرض الهزيمة على كل ما هو أصيل في التجربة الأردنية، وتفكيك جهاز الدولة، وإغراقه بالفساد الشامل، الذي تمثل كل محاولة ضدّه، “جموداً” و “تخلفاً”!
ومنذ أوائل التسعينات، والبيروقراطي الأردني التقليدي في موقع الهدف المفضل للرماية. فهو، علناً: “مترهل” و”فاسد”؛ وضمناً: “فلاح رجعي يعوق التقدم”.
وقوى البورجوازية كلها، الكبيرة والصغيرة، تصب جام غضبها على البيروقراطي، لأنه ملتزم بالقانون ولا يتجاوزه لتسهيل معاملات البورجوازي سواء أكانت مخالفات صريحة أم تهرباً ضريبياً أم وقوفاً في مكان ممنوع. وإذا كان البورجوازي يحظى بتملق السكرتيرات والحاشية، فهو يتوقع من البيروقراطي أن يتملقه أيضاً. وهو ينزعج من تمسك الأخير باحترامه لنفسه، ومن حرصه على القانون ومصالح الدولة. وهو ما يجعل البورجوازي فاقداً لأعصابه: فهذا “الآتي من وراء البقر” يريد عرقلة مخالفته. وهذه المخالفة تحاط عادة بسيل من التفسيرات والكلام الكبير عن “الاستثمار” و”التقدم” مع الفلفل اللازم: شتم البلد “ويومها”!!
ولكن البورجوازي يعلم، بالطبع، أن هذا البيروقراطي” الآتي من وراء البقر” والعاجز عن تأمين خبز الأولاد حتى نهاية الشهر متفوِّق عليه، حضارياً وأخلاقياً. أولاً، لأنه، وعى أم لم يع، يتمثل العامّ الدولاني، الدستوري والقانوني، ضد الخاص الفردي، الفوضوي وغير المسؤول. وثانياً، لأنه، في الأغلب الأعم، ما يزال يتمسك بالقيم الأخلاقية الرفيعة للعشائرية المتخلفة: احترام الذات والاعتزاز بالنفس، وما ينجم عنهما، تلقائياً، من نزاهة ونظافة يد وترفع.
وإذا كانت أخلاقيات البيروقراطيين الأردنيين قد بدأت تختل؛ وبدأ يظهر فيهم، هنا وهناك، مستسلمون لأخلاقيات السوق، وما فيها من ضعة وفساد، فإن ذلك يحدث تحت ضغط الهجمة المعادية بالدرجة الأولى. فالتضخم الذي يأكل الرواتب ويشكل الأساس الاقتصادي للفساد، يمثل، هنا، الدرجة الثانية.
ومع ذلك، فإن المقارنة الملموسة بين البيروقراطيين الأردنيين وزملائهم في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث، تجعلنا نؤكد، للإنصاف، أن الجسم الرئيس للبيروقراطية الأردنية ما يزال سليماً معافى، دولانياً ونزيهاً ومرناً أي قابلاً للتطور والعصرنة. وأمّا الفساد، فقد كان، دائماً، محصوراً في فئات من الشرائح العليا من هذا الجسم… وله، على الأغلب، طابع سياسي.
إن تشكّل البيروقراطية الأردنية، المدنية والعسكرية، تم، كما هو معروف، في عهد الانتداب؛ وكان لافتاً، على المستوى السسيوثقافي، أن “أبناء الحراثين” الذين قاوموا، بدون كلل، وبكل الوسائل بما فيها المسلحة، الهيمنة الإمبريالية الإنكليزية، تمثلوا، في الآن نفسه، تراث الدولانية الإنكليزي، وعرّبوه، وأردنوه؛ واستطاعوا، بذلك، بناء إدارة حديثة ومنضبطة وكفوءة؛ ومتجذرة، في الوقت نفسه، في البنية الاجتماعية الأردنية، في تجاوز هيجلي مدهش للتناقضات. فالفارس الأردني الشهم، تحول إلى جندي على الطراز الأوربي وظلَّ فارساً. والفلاح الكادح تحول إلى إداري حديث، بدون أن يفقد صلاته الوطيدة بمجتمعه المحليّ وقيمه. وقد نقل الاثنان إلى المكتب والمعسكر، مصنعيّ الدولة الحديثة، كل ما هو أصيل في القيم الأردنية. وفي النهاية، فإن مأثرة الأردنيين أنهم تمثلوا الحداثة من موقع الأصالة. فكان ذلك الأساس الصلب للشخصية الأردنية بصفاتها المعهودة: الطيبة والكفاءة والجدية والترفع.
وانطلاقاً من كل ذلك، لعبت البيروقراطية الأردنية، دور المنظم الاجتماعي لعصبية الدولة. وأحسب أن هذا الدور– وليس “الترهل” أو “الفساد” المزعومين – هو السبب الرئيس للهجمة الشرسة التي يتعرض لها جهاز الدولة الأردني، في السنوات العشر الأخيرة، بهدف تدمير الدولة الأردنية أو، أقله، تغيير طبيعتها ومضمونها نحو إلغاء استقلالها النسبي وإلحاقها، بصيغة أو بأخرى، بالمشروع الصهيوني؛ فتذهب هدراً نضالات الأردنيين وجهودهم المستميتة، طوال القرن الماضي، لتأسيس دولتهم على الضدّ من ذلك المشروع، وفي أفق الاستقلال والحداثة والعروبة.