يمكننا أن نقول اليوم أن ‘صلة وصل’ ما ربطت بين أوساط أساسيّة في الحراك الشعبي وبين الدكتور معروف البخيت.كان ترئيسه, في البداية, مطلبا, ولو ضمنيا, وكانت الهتافات بسقوطه تعبّر عن خيبة أمل بأكثر مما تعبّر عن موقف. بالمقابل, كانت بعض تصريحاته الحادة العلنية ضد الحراك الشعبي لا تعبّر عن موقفه الفعلي. فالبخيت يظل في النهاية, كما يقول السلطية, من ‘العلبة’ نفسها , أي من الإطار الاجتماعي الثقافي الوجداني نفسه الذي خرجت منه قيادات المعارضة الوطنية الجديدة.
رؤية البخيت الوطنية الاجتماعية تتطابق مع منظومة الأفكار والمشاعر المنتشرة في صفوف الطبقة الوسطى من أبناء المحافظات. وهي مزيج من الوطنية الأردنية وهواجس العدالة الاجتماعية والعلمانية الثقافية والإيمان بمكانة الدولة ودورها. ومن الإنصاف القول إن تلك الرؤية انعكست في قرارات حكومية شجاعة مثل تشريع نقابة المعلمين وبرنامج إعادة هيكلة القطاع العام والتمسك بعدم رفع أسعار المشتقات النفطية والسعي إلى تفهم احتياجات المحافظات وإلغاء امتيازات النهب من شركات الديسي, وآخر تلك القرارات, إخضاع سحب ومنح الجنسيات لمجلس الوزراء…
لكن مأساة البخيت – وهي نفسها مأساة الوطنيين الأردنيين التقليديين – تكمن في الإعتقاد بأنه يمكن تمرير البرنامج الوطني الاجتماعي من خلال الآليات البيروقراطية. وهو ما يستلزم, بالتالي, المنافسة على إظهار الامتثالية السياسية,وتقديم التنازلات, وليس تظهير ذلك البرنامج سياسيا من موقع التميّز والاختلاف?
قد يكون البخيت ضعيفا ومترددا وبطيئا. لكن تلك ليست فقط صفات شخصية بقدر ما هي تعبير عن تراجع الدور السياسي للبيروقراطية الأردنية المهشّمة المحاصرة والعاجزة في الوقت نفسه عن التحالف العلني والثابت مع الحركة الشعبية. ولذلك, فإن القيادات البيروقراطية التي تغتبط, ضمنا, لبروز قوى الحراك الشعبي, وترى فيها منقذا, تظل بعيدة عنها وتظل مستعدة للتبروء منها ومهاجمتها للتأكيد على التزامها بالامتثالية السياسية.
جاء البخيت إلى الدوار الرابع على صهوة الحراك الشعبي, ولقي من الدعم من قبل معظم قيادات المعارضة الجديدة, ما لم يلقه رئيس وزراء منذ وقت طويل. لكنه خيّب الظن بتخليه الطوعي عن حقه الدستوري في الولاية العامة وتردده في خوض المعارك السياسية, مما فتح الطريق أمام الموجة المعادية التي حاصرت حكومته, منذ يومها الأول, في جبهة ضمت الرأسماليين والإخوان المسلمين والليبراليين ودعاة المحاصصة, ممن رأوا في توجهات البخيت خطرا, سرعان ما تبين أنه مجرد خطر نظري. ومع ذلك لم يتم التسامح معه. وتواصل الهجوم عليه حتى آخر لحظة.
ارتكب البخيت عدة أخطاء يمكن تلخيصها كلها بعدم تمسكه بحقه في الولاية العامة, وبامتثاليته. لكن ربما كان خطأه الجوهري يكمن في اختياره لـ أو قبوله بـ فريقه الوزاري.
كان الدعم الذي تلقاه البخيت من أوساط شعبية فاعلة, قويا بأكثر مما هو منظور, لكنه استنزفه كله من دون أن يبرّ بوعوده في ضرب العناصر النيوليبرالية وتعديل قانون الضريبة واستحداث قانون ‘ من أين لك هذا’ و مراجعة حزمة القوانين الاقتصادية للوصول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي وقوننة فك الارتباط ..الخ ثم أنه, بدلا من الهجوم على رموز الفساد الكبرى,كما كان مأمولا منه, امتثل لإقرار المادة 23 المشؤومة المخصصة لحمايتهم! .
لو خاض البخيت معركة البرنامج الوطني الاجتماعي, بروح السياسي وإقدام المقاتل, ومن دون حسابات الامتثالية البيروقراطية, هل كان سينتصر ? كلا . فالبرنامج ذاك لا يمكن تحقيقه من دون جبهة وطنية عريضة مسنودة بحراك شعبي واسع النطاق قادر على تحقيق تحولات اجتماعية سياسية جذرية. لكنه, لو فعل ذلك, لغادر الدوار الرابع وقد أطلق السياق اللازم لولادة تلك الجبهة.
أضاع البخيت على البلد فرصة ثمينة لإطلاق شرارة إعادة البناء, وأضاع على نفسه فرصة الزعامة, وخرج من الدوار الرابع مهزوما, تاركا موقعه لـ’منقذ’ من صفوف التكنوقراط! أهي مأساته الشخصية أم هي مأساة البيروقراطية الوطنية التي استنفدت ممكناتها, ولم تعد قادرة على قيادة العملية السياسية التصحيحية كما فعلت مرات عديدة في تاريخ المملكة? أهو عجزه الشخصي أم أن وصفي التل لم يعد ممكنا?.
(الدستور)