ناهض حتّر
الآن، آتي الى فترة كنت خلالها – وما زلت-اعيش التجربة من داخلها.
في العام ،1977 كنت طالبا في السنة الاولى في قسم الفلسفة والاجتماع في الجامعة الاردنية، حين كانت الماركسية، بتلاوينها، هي الاتجاه الفكري الاكثر انتشارا بين الطلبة الطليعيين. اما في ميادين العمل الطلابي في الجامعة، فقد كانت المنظمات اليسارية – وفي مقدمتها الحزب الشيوعي الاردني – هي التي تستأثر بالهيمنة السياسية.
كان الطلاب اليساريون – وكنت واحدا منهم – يسيطرون، تماما، على الحركة الطلابية، ويفعّلونها، وينظمون مطالبها ومظاهراتها واعتصاماتها، في حين كان التيار الاسلامي – المقتصر، اذ ذاك، على الاخوان المسلمين وحزب التحرير – تيارا هامشيا. وبينما كان الطلاب اليساريون يحشدون الآلاف في مسيرات واعتصامات – تركز، غالباً، على مطالب اصلاحية وطلابية، او متصلة بدعم سياسات منظمة التحرير الفلسطينية في نزاعها مع النظام الاردني، آنذاك، على تمثيل المقعد الفلسطيني في المفاوضات مع اسرائيل – كان الاسلاميون غير قادرين على حشد سوى العشرات – واحيانا المئات – في مسيرات معادية للشيوعية والقومية العربية والنصارى!
كنا ننظر الى الاخوان المسلمين باعتبارهم مجموعة متعاونة مع الاجهزة الامنية، وتنفذ اوامرها الشرطية، وكأصدقاء للامريكيين.
في تلك الاجواء، وقع الانقلاب الشيوعي في افغانستان (1978)، وقد ادى ذلك الى تفاعلات مفصلية.
– فقد اعتبر تيارٌ في الحزب الشيوعي الاردني، ان نجاح حزب شيوعي صغير – كالحزب الافغاني – في الاستيلاء على السلطة، في بلد متخلّف وعشائري، دليلا حيّاً على امكانية الانسلاخ عن البرامج الاصلاحية (داخليا)، وكذلك، تجاوز «مركزية» المهمات التي تطرحها منظمة التحرير الفلسطينية، على «الساحة الاردنية»، نحو التفاعل مع برنامج ثوري واردني.
– بالمقابل، فإن بدء التعاون الامريكيين والاسلاميين حول افغانستان، امدّ الاسلاميين بمحرّك قوي للتوسع والنشاط.
ومع انتصار الخط الاسلامي في الثورة الايرانية (1979)، اكتسب التيار الاسلامي الاردني، مواقع جديدة، واجتذب الجماهير الى صفوفه على نطاق بدأ يتسع، بصورة غير مسبوقة.
***
شن الشيوعيون العرب، هجوما ايديولوجيا مكثفا حول مسألة التراث، في مسعى له مغزى سياسي واضح، لمعالجة القضية التي طرحت نفسها بقوة على الساحة، الا وهي مسألة الاسلام ودوره السياسي الحاضر، لقد اراد الشيوعيون العرب تملّك التراث الديني والحضاري والاسلامي من خلال دراسته ونقده، ونزع هذا السلاح من ايدي الاسلاميين. وقد استمر هذا السجال، خلال عقد الثمانينيات كلّه.
وفي لبنان، كان المفكر (الشهيد) مهدي عامل، يخوض معركة فكرية عنيفة ضد الاتجاهات الاصلاحية في الاحزاب الشيوعية العربية، داعيا اياها الى الانطلاق نحو برنامج الاستيلاء على السلطة. ومع انه لم يأت، في اي من كتاباته، على الدعم السوفياتي، فقد كان حاضرا في خلفية تفكيره ان وجود الاتحاد السوفياتي، كقوة عظمى عالمية، يمثل راعيا محتملا لاستراتيجية الاستيلاء على السلطة من قبل حزب شيوعي صغير في بلد صغير.
في العام ،1991 انهار الاتحاد السوفياتي، وبانهياره، سقط السياق التاريخي للتفكير الثوري، سواء ألجِهة تملّك تراث الاسلام من قبل الشيوعيين، ام لجهة حفز الشيوعيين لبلورة برنامج الاستيلاء على السلطة.
كانت لحظة قاسية، حين عمّت الهزيمة وتعمقت، تفرق الشيوعيون الى جبهتين؛ ليبرالية – وصل بعضها الى التعاون الصريح مع الامريكيين، مثلما حدث في العراق لاحقا -، واسلاموية – قوموية، احتمت وتماهت بالمدّ الاسلامي، وكان لا بد من التفكير بخط ثالث.. هو خط اليسار الاجتماعي.
انني ما زالت ماركسيا، الا انني انتقلت، خلال عقد الهزيمة في التسعينات، من استراتيجية اليسار الثوري، الى استراتيجية دفاعية هي استراتيجية اليسار الاجتماعي، في سياق نشاط نظري وسياسي لتكوين قوة سياسية ديناميكية قادرة على الدفاع عن مصالح الفئات الشعبيّة التي تنسحق، بلا معين، تحت نير اندفاع ايديولوجية وآليات السوق الرأسمالية المعولمة التي تحطم الدول والمجتمعات، وتحيل الاغلبيات الى فائض سكاني مهمّش كليا.
ان شطب الدور الاقتصادي – الاجتماعي – التقليدي للدولة القديمة، وخصخصة القطاع العام، الانتاجي والخدمي، واخضاع المجتمعات المتخلفة الى اعادة هيكلة شاملة هدفها تحقيق مصالح الاقلية الكمبرادورية المدعومة من قبل الاستعمار الامريكي، وهمجيته العسكرية؛ ان كل ذلك، في اطار موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية، دفع باليساريين الى موقفين، يتمثل اولهما بالاستسلام امام الهجمة، والتسليم بالايديولوجية الليبرالية؛ ويتمثل ثانيهما في الالتحاق بالمعارضة الثقافويّة للخط الاسلاموي – القوموي الذي يقر، هو الآخر، بالليبرالية الاقتصادية، لكنه يناوىء الهجمة السياسية والثقافية الامريكية، ويستخدم صناديق الاقتراع و«الارهاب» معا، في مسعى لنيل اعتراف «الامبراطورية» الامريكية، بجدارة الاسلاميين في ادارة التخلّف في العالمين العربي والاسلامي.
في مقابل هذين الموقفين، بحثت، دائما، عن خط ثالث ينطلق من الالتزام باستراتيجية وطنية وديمقراطية – اجتماعية وتقدّمية في الآن نفسه، هي، في رأيي، استراتيجية اليسار الاجتماعي، القادرة على تنظيم الدفاع الشعبي ضد الهجمة الاستعمارية الجديدة في مستوياتها المختلفة. وتنظر هذه الاستراتيجية الى الديمقراطية، لا بوصفها عملية انتخابية واعلامية هدفها تشريع واستقرار وتكييف الهيمنة الاستعمارية – الكمبرادورية على المجتمعات العربية والاسلامية، ولكن بوصفها آلية للتسويات الاجتماعية، واعادة استقطاب اوسع الفئات الاجتماعية الوطنية، الى المشاركة السياسيّة، وتنظيم التحالفات، للدفاع عن مصالحها ووعيها ومستقبلها.
ملاحظة:
حول مجريات الاجتماع الذي عقد، مطلع ال¯ ،68بين المغفور له الملك الحسين وقيادات شيوعية اردنية، هاتفني الاستاذ فهمي الكتوت واعلمني ان احد الحاضرين في هذا الاجتماع، الاستاذ عبدالعزيز العطي، نفى له ان يكون الحزب الشيوعي الاردني قد تلقى تبرعا من الملك الراحل. وهو ما ذكرناه استنادا الى ذكريات احد قياديي الحزب، وعلى كل حال، فإن حصول واقعة التبرع او عدم حصولها، لا يغيرّ من مدلولات السياق السياسي للاجتماع الشهير، وما ادى اليه من تقارب سياسي بين الملك الراحل والحزب الشيوعي الاردني الذي اصدر، حينها، بيانا موثقا بالدعوة الى جبهة وطنية بقيادة الملك، ولا يغير من حقيقة ان الشيوعيين الاردنيين رفضوا، آنذاك، قيام كيان فلسطيني في الضفة الغربية، مؤكدين انها ارض اردنية محتلة، وعلى اسرائيل الانسحاب الكامل منها حتى حدود 4 حزيران من دون قيد او شرط.