استكمل الليبراليون الجدد ، سيطرتهم على كامل حيز النخبة السياسية في أمانة العاصمة والبلديات والبرلمان والديوان الملكي والحكومة. ومنذ الآن ، سوف تختفي الصراعات الداخلية بين المواقع ومراكز القوى، بعد توحيد وتركيز السلطات في أيدي حزب واحد، هو حزب الليبرالية الجديدة. وقد انتبه هذا الحزب ، منذ معركة البرلمان السابق الناجحة مع حكومة عدنان بدران ، إلى أهمية تغيير بنية المجلس النيابي جذريا، لإضعاف مواقع الحرس القديم والقيادات العشائرية والتقليدية والإسلاميين، لصالح أغلبية برلمانية من نوع جديد. لكن ، بالنظر إلى الخشية من أن يؤدي تغيير النظام الانتخابي الحالي القائم على الدائرة المحلية والصوت الواحد، والمصمم ، أساسا ، لخدمة التقليديين، إلى تسرب قوى اجتماعية حديثة وخصوصا قومية وشعبيةو يسارية إلى المجلس النيابي، جرى اعتماد أسلوب نسف النظام الانتخابي الحالي من داخله ، عن طريق السماح بمناقلات ، غير قانونية، واسعة النطاق بين الدوائر الانتخابية، مما أدى إلى خلخلة البنى الاجتماعية المحلية ، وتفتيت القوى العشائرية والتقليدية والإسلامية، وأباحة ظاهرة الاتجار بالأصوات التي حددت فوز الأغلبية.
هذه الأغلبية ليست من الليبراليين الجدد بالمعنى الفكري والسياسي ، ولكنها ، بطبيعة أنشطتها التجارية والمالية وارتباطاتها المحلية والإقليمية ، تشكل الطبقة الجديدة من أثرياء الحقبة الليبرالية، وتشكل القاعدة الاجتماعية لليبراليين الجدد.
كانت نتائج الانتخابات متوقعة ، من الناحية السياسية وربما بالأسماء، فالمنافسة تتم ، في معظمها، داخل الطبقة الجديدة نفسها ، والتي يقدر أنها أنفقت ما لا يقل عن 250 مليون دينار في الحملات وشراء الأصوات.
وبالموازاة، كان الاتجاه إلى لبررة المواقع السياسية الرئيسية ، ينطلق من مواقع انتصارية. ومثلما كان متوقعا جرى تكليف تكنوقراطي ، هو نادر الذهبي ، على رأس حكومة مكتظة بالليبراليين الجدد. وإذا ما أضفنا ما حققه هؤلاء الأخيرون على الموقع المهم الآخر في أمانة عمان المرشحة للاستثمارات العقارية الكبرى واللبررة الشاملة، نكون أمام حقيقة انتصار سياسي حاسم لليبراليين الجدد في بلدنا.
وكان هذا الانتصار سهلا ، تم من دون مقاومة تذكر. لكن الانتصارات السهلة هي عادة أسوأ الانتصارات . وفي الحالة التي نحن بصددها، فان المراقب لا يستطيع تهنئة المنتصرين ، للآسباب التالية:
ـ 1ـ على رغم نتائج الانتخابات المدبرة ، فان القوى الاجتماعية السياسية على الأرض لا يمكن شطبها بجرة قلم. فالقوى العشائرية والتقليدية والإسلامية واليسارية ، موجودة ، وستظل ذات تأثير حاسم واقعيا، حتى إذا لم تكن ممثلة في البرلمان والحكومة. وسوف تبحث هذه القوى عن مسارب وأشكال متعددة للتعبير عن نفسها. وبالنظر إلى حصر وتضييق القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي على نحو غير مسبوق، فان القاعدة الاجتماعية لنشوء معارضة سياسية واسعة قد تشكلت، وسرعان ما ستجد قنواتها.
ـ 2ـ الليبرالية الجديدة ليس لها جذور اجتماعية، وهي تستمد قوتها وتحقق انتصاراتها ليس بالصراع الديمقراطي والتجذر الاجتماعي، ولكن من خلال سيطرتها على مواقع القرار. وبالنظر إلى انفرادها ، الآن، بجميع مواقع السلطة، سيكون عليها ، وحدها ، أن تتحمل نتائج الاستحقاقات الصعبة القادمة، ابتداء من انفلات أسعار النفط ، وما سيجره ذلك من مصاعب اقتصادية واجتماعية ، مرورا بمعالجة الفشل في الاستثمارات المولدة لفرص العمل، والإفقار وانهيار الطبقة الوسطى، ولبس انتهاء بالمفاجآت الممكنة على المسار الفلسطيني على حساب الأردن ، وآثار المستجدات العراقية والإقليمية.
ـ 3ـ والأمر ، هنا ، لا يتعلق بكفاءة الأشخاص، بل بالتمثيل السياسي للقوى الاجتماعية ، حيث تفرض التحديات تمثيل هذه القوى في المواقع والقرار، وتوسيع قاعدة الحكم ، على أساس مفهوم التحالف الاجتماعي الوطني. فالبلاد تحتاج الآن إلى التوافق والتعاضد في جبهة وطنية، بينما تم الانتقال إلى حكم الحزب الواحد، هو حزب الليبرالية الجديدة .
انتخابات انقلابية
جرت الانتخابات النيابية الأردنية، في العشرين من شهر تشرين الثاني الماضي، في أجواء باهتة، إذ لم يشارك فيها أكثر من 39 بالمئة من حوالي ثلاثة ملايين وثلث المليون من المواطنين الأردنيين الذين يحق لهم المشاركة فيها، أو 54 بالمئة من المسجلين في قوائم الناخبين، حسب الأرقام الرسمية غير المؤكدة من قبل أية جهة مستقلة.
كان اليوم الانتخابي مملاً ، مثل حضور شريط مباراة كرة قدم سيئة معروفة النتائج مسبقا. ومع ذلك، حملت تلك النتائج ، اتجاهات انقلاب سياسي ، سيكون له آثار عميقة على مجمل تركيبة النظام السياسي الأردني. فلقد تلقت القوى التقليدية ، من بيرقراطية الحرس القديم والعشائر والإسلام السياسي ، ضربة قاصمة، لصالح ‘ طبقة جديدة’ من أصحاب الثروات الناجمة عن الاتجار مع الاحتلال الأميركي في العراق، وتجارة العقارات والأنشطة غير القانونية ، وعلى رأسها تهريب المخدرات!
وتشير التقديرات المتطابقة إلى أن ممثلي ‘ الطبقة الجديدة’ تلك، قد احتلوا ما لا يقل عن خمسين مقعدا في البرلمان الأردني( الذي يتكون من مئة وعشرة مقاعد ) بكلفة تقديرية للمقعد الواحد ، تتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين دولار، جرى إنفاقها على الإعلان والمقرات واللوجستيات وشراء الأصوات.
وإذا ما أعدنا قراءة العملية الانتخابية الأخيرة في ضوء المشهد السياسي الأردني، نستطيع الاستنتاج أن المجموعة الليبرالية الجديدة المسيطرة على مفاصل القرار في البلد، على رغم هشاشة وضعها الاجتماعي ـ السياسي، وضعف جذورها في التركيبة الأردنية، وانعدام قدرتها على خوض معركة انتخابية أو سياسية بقدراتها أو بواسطة ‘ مثقفيها’، قررت الاستعانة ب’ قاعدتها’ الخاصة من الأثرياء الجدد، لاستباحة الانتخابات، والسيطرة على البرلمان.
كانت تجربة المجموعة الليبرالية الجديدة مع البرلمان التقليدي المنصرمة ولايته ، صعبة. فعلى رغم طواعية ذلك البرلمان في قضايا السياسة الخارجية التي تعتبر حقلا خاصا بالملك، فقد أبدت الأغلبية التقليدية في ذلك البرلمان ، معارضة قوية للعديد من القرارات والتشريعات المطلوبة من قبل الليبراليين الجدد. وقد أسقطت هذه المعارضة، حكومة عدنان بدران ـ باسم عوض الله، في خريف 2005، واضطرت الملك إلى تكليف رئيس وزراء من الطبقة الوسطى ، ومن خلفية بيروقراطية عسكرية، هو الدكتور معروف البخيت. وهو الذي استخدمه الليبراليون الجدد مثابة واجهة لمدة سنتين، كانوا خلالها يمارسون الحكم فعليا، مجردين ‘ دولة الرئيس’ من صلاحياته، ومغر قينه بالهجمات.
يحول النظام الانتخابي المعمول به في الأردن، والقائم على أساس الصوت الواحد للناخب في دوائر محلية شبه مغلقة، دون اختراق القوى الاجتماعية الحديثة والأحزاب اليسارية والقومية والشخصيات الوطنية العامة، للبرلمان إلا في أضيق نطاق ممكن. ولكنه يمنح القوى العشائرية والزعامات التقليدية من الحرس القديم ، فرصا مؤثرة للحصول على الأغلبية البرلمانية ، بينما يتمكن الإخوان المسلمون من حصد مقاعد الدوائر التي يغلب عليها الناخبون من أصول فلسطينية، وتساوي، عادة، أقل من 20 بالمئة من مقاعد البرلمان.
وعلى خلفية القرار السياسي بضرب القوى التقليدية ، البيروقراطية والعشائرية والإسلامية، جرت نقاشات عديدة لتعديل النظام الانتخابي ، المصمم أصلا لخدمة هذه القوى، لكن خُشي من أن أي تعديل ، مهما كان شكله ، لذلك النظام، سوف يفتح الباب أمام القوى الاجتماعية الحديثة والقيادات الوطنية واليسارية. وقد تم طي صفحة تلك المناقشات، لصالح إجراءات غير قانونية في ظل النظام الانتخابي الحالي، تمنع التقدميين من المنافسة وتضرب التقليديين والإسلاميين في الوقت نفسه. وذلك من خلال السماح ، خلافا للقانون، بإجراء عمليات نقل كثيفة لسجلات الناخبين ، خصوصا من المخيمات والمناطق الأكثر فقرا، إلى دوائر انتخابية أخرى. وهو ما أدى إلى خلخلة التركيبة الاجتماعية ـ السياسية للدوائر المحلية، ووجه ضربة للزعامات العشائرية والتقليدية والإسلامية، و التي ظهر لها منافسون يعتمدون على الناخبين المنقولين المستعدين لبيع أصواتهم.
وبالنظر إلى خلخلة تركيبة الدوائر المحلية، فقدت الآليات التقليدية قدرتها على ضبط العملية الانتخابية ، وتفتت العشائر إلى أجنحة، وأصبح المال هو سيد الموقف. وقد حقق نتائج باهرة.
يقدر مراقبون أنه جرى إنفاق أكثر من 250 مليون دولار أميركي في الحملات الانتخابية ، منها مبلغ أساسي تم إنفاقه لشراء الأصوات، أنفقها محدثو النعمة في بلد يعاني من ضائقة اقتصادية خانقة. وقد حدث ذلك، ليس فقط تحت أعين الجهات المسئولة، وإنما ، أيضا، بتشجيعها، وصولا إلى ما يشبه الانقلاب الأبيض.
ومن أهم المؤشرات السياسية الانقلابية في لوحة البرلمان الجديد (1) تراجع حصة الحرس القديم إلى أقل من الربع . بل بالكاد فاز أساطينهم في معاقلهم العشائرية، بينما خسر معظم محازبيهم، مقاعدهم السابقة. وهو ما سيؤثر على دور الحرس القديم في مواجهة الليبرالية الجديدة وسياسيات التوطين السياسي للاجئين ( 2) انهيار كتلة الأخوان المسلمين من 17 إلى 6 مقاعد . ويرتبط ذلك بإحجام القواعد الإخوانية المتشددة عن المشاركة في الانتخابات لمعاقبة المرشحين الإسلاميين المعتدلين على الصفقة التي عقدوها مع الحكومة، لكن الأهم هو ( 3) حدوث انقلاب داخل القاعدة الانتخابية الفلسطينية التي كان يمثلها الإخوان المسلمون تقليديا ، لصالح ‘ الطبقة الجديدة’ من أثرياء الحرب. فمن بين 18 نائبا من أصل فلسطيني ، لوحظ فوز ثلاثة إسلاميين فقط، بينما حصد’رجال الأعمال’ ، الخمسة عشر مقعدا الباقية.
سمحت نتائج الانتخابات الانقلابية هذه، بانتقال الممثل الرئيسي لليبرالية الجديدة ، باسم عوض الله، من موقع نافذ ، لكنه غير رسمي ، هو مدير مكتب الملك، إلى منصب قيادي رفيع هورئيس الديوان الملكي. وهو ما سيمنحه سلطات إضافية واسعة، بينما جرى تكليف نادر الذهبي ـ شقيق مدير المخابرات العامة، محمد الذهبي ـ برئاسة الحكومة . الرئيس الجديد ، تكنوقراطي غير مسيس ،و من أوساط غير تقليدية، ما يشير إلى شعور القصر بأنه لم يعد بحاجة إلى شخصية عشائرية كواجهة في رئاسة الوزراء.
تساؤلات
ويتساءل المراقبون في عمان عن الحكمة في تكوين نخبة برلمانية وحكومية ضيقة التمثيل وهشة اجتماعيا، عشية ثلاثة استحقاقات كبرى تواجه البلاد، وهي:
( 1) تحرير تجارة النفط ، المقترن بتصاعد سعره إلى ما فوق المئة دولار للبرميل. وهو ما سيكون له آثار دراماتيكية على أسعار المحروقات والكهرباء والمياه وتكاليف إنتاج السلع والخدمات، والغلاء وتفاقم معدلات الفقر وتراجع الفئات الوسطى، في وقت فشلت فيه السياسات الاقتصادية الليبرالية في تشغيل استثمارات ذات قدرة على استيعاب البطالة، وتستعد فيه الحكومة المركزية لشطب كل أنواع الدعم للسلع والخدمات الأساسية من الموازنة العامة. وهو ما سيقود ، بالتأكيد، على اندلاع سلسلة من الاحتجاجات الاجتماعية.
( 2) امكانية حدوث ‘ مفاجآت’ على المسار الفلسطيني ، يتحسب لها الملك في تصريحات علنية، و تعيد طرح التوطين السياسي للاجئين في الأردن، وتستعيد الضغوط الأميركية على عمان للقبول بمشروع الكونفدرالية مع الضفة الغربية المحتلة والممزقة إلى كانتونات.
( 3) التغييرات المتوقعة في العراق باتجاه ترتيبات سياسية جديدة، سوف يكون لها انعكاسات إقليمية ، سواء لجهة الانسحاب الأميركي ، جزئيا على الأقل، وإعادة ترتيب النظام السياسي العراقي الذي يستوجب حضورا أردنيا فاعلا، أو احتمالات العدوان على إيران، وما سيترتب عليه من آثار، بالإضافة إلى التطورات الدراماتيكية المتوقعة في لبنان ، سواء لجهة احتدام الصراع أو التوصل إلى صفقة تمنح المعارضة انتصارا.
بالخلاصة ، تبدو الخيارات السياسية الداخلية في الأردن، بانكماشها وضيق قاعدتها وتهميشها للقوى التقليدية واستبعادها للقوى المدنية، في مواجهة تحديات عاصفة، وكأنها نزوع انتحاري: فضرب مكانة وصدقية الاسلام السياسي المعتدل، وفي الوقت نفسه ضرب الزعامات العشائرية والتقليدية، وكأنها المعادلة المرجوة من قبل السلفية الجهادية.
كذلك، فإن استصغار شأن الإفقار المتنامي وانهيار الطبقة الوسطى، مقترنا باستصغار شأن الصراع المتزايد حول الهوية الوطنية للبلد، يبدو وكأنه وصفة للصدام الأهلي.
فرصة أمام البديل اليساري
وتمنح التطورات الموضوعية الحاصلة في الأردن، لليسار، آفاقا غير مسبوقة للتحول إلى حركة جماهيرية فاعلة، وقادرة ، تاليا، على التدخل الجدي في صوغ مستقبل البلاد.
من تلك التطورات ، أشير، هنا ، إلى الأهم :
( 1) انكشاف المشروع الليبرالي الجديد ، بوصفه أداة لتكوين طبقة كمبرادورية جديدة. فالخصخصة وتجرير السوق واخضاع الدولة لمتطلبات ‘ الإستثمار’ ، لم تؤدي إلى حل مشكلة المديونية العامة وتكثيف فرص العمل أو تحسين الانتاجية والتنافسية في الاقتصاد الأردني، بل أدت إلى المزيد من البطالة والإفقار ـ الذي بدأ يطال الفئات الوسطى أيضا ـ وتراجع المنظومة الإدارية والصناعة والزراعة ، لحساب نشاطين رئيسيين هما النشاط العقاري والمالي، اللذين صبت فيهما معظم الأموال الناجمة عن احتلال العراق والفورة النفطية. وبينما وقعت القطاعات الأكثر ربحية ( كالإتصالات والصناعات المنجمية) في أيدي الرأسماليين الأجانب ، ظلت الموازنة العامة ترزح تحت أعباء أقساط المديونية الخارجية وفوائدها ، تلك التي تستهلك حوالي ربع الانفاق العام الاجمالي سنويا.
ويعاني الاقتصاد الأردني الذي انبنى على قاعدة النفط الرخيص من ـ والصادرات الصناعية والزراعية إلى ـ عراق ما قبل الاحتلال، من التداعيات ‘ الكارثية’ ـ حسب التصريحات الحكومية نفسها ـ للإرتفاعات المستمرة في الفاتورة النفطية. وبينما تحولت أفضل سهول البلاد إلى سلع عقارية، أصطدمت البلاد بأزمة الحبوب والأعلاف، وقد أصبحا سلعتين استراتيجيتين مرتفعتي الثمن في الاقتصاد العالمي. وإلى ذلك، هناك أزمة المياه ، وهي تهدد المدن الرئيسية ، بالعطش ، وتكشف الطابع اللا عقلاني لتكثيف الاستثمارات العقارية في بلد فقيرالموارد المائية ولا يتوفر على الامكانات المالية الضخمة اللازمة لتمويل البدائل المائية ، تلك التي لم يعد ممكنا تأجيلها.
وعلى رغم تفاقم الأزمات الاقتصادية ـ الاجتماعية، فان الخطط الرسمية ماضية في سياسات خصخصة وتحرير قطاع الطاقة ، والتخلي عن القطاعين الطبي والتعليمي للقطاع الخاص.
( 2) يلاحظ المراقبون أنه تشكلت في الأشهر الأخيرة من العام الحالي حركة واسعة من
الأشكال العديدة والمتصاعدة من الاحتجاجات الاجتماعية للسياسات الليبرالية الجديدة. وإذا كانت حركة الاحتجاجات هذه غير مسيسة حتى الآن، في وعي القائمين عليها، فانها تشكل المظهر الأكثر أهمية في السياسة المحلية.
( 3) فشل مشروع الاصلاح السياسي ـ ذاك الذي يشكل الحيز الرئيسي في الخطاب الرسمي والمعارض ، منذ سنة 89ـ في تحقيق أية مكتسبات جدية على مستوى المشاركة في اتخاذ القرار الوطني .
( 4) وعلى هذه الخلفية ، يتنامى الإنشقاق الداخلي بين الأردنيين الرافضين للتوطين والكونفدرالية مع الضفة الغربية ،وبين الأردنيين من أصل فلسطيني ، الذين يطالب تيار قوي في صفوفهم، اعتبارهم ‘أردنيين’ بصفة نهائية ، وإقامة نظام سياسي يستند إلى المحاصصة بين ‘ الطائفتين ‘ على النحو اللبناني والعراقي.
وليس لدى أي من القوى المسيطرة في الحكم والشارع ، الآن ، حلولا لهذه المآزق الصعبة. فالليبراليون الجدد يواصلون ، مستأثرين بماكنة الدولة، برامجهم التي تعمل على تفجير التناقضات الاجتماعية والسياسية من دون اعتبار للمخاطر، في حين أن القيادات التقليدية ( العشائرية ـ التقليدية ) ليس لديها ، ولا يمكن أن يكون لديها ـ بحكم تركيبتها غير المستقلة عن ماكنة الدولة، وتخلّف وعيها الاجتماعي السياسي ـ برنامجا مضادا انقاذيا، بل صراعات صغيرة في كواليس الحكم .
الحركة الإسلامية التقليدية ، بدورها، تظهر عاجزة إزاء التطورات. فقوة ‘ الإخوان المسلمين ‘ تنتمي إلى مرحلة نظام الملك حسين. وهو الذي مكنها من بناء شبكتها الاستثمارية والخيرية الضخمة، والإستئثار ، مطولا، بالتربية والتعليم ، ودعم حضور ‘ الإخوان’ في الشارع الفلسطيني ، سواء كوسيط مع السلطات في الأردن أو كبديل للمنظمة في الضفة والقطاع. ولا ريب أن هذه الترتيبات التي كانت معتبرة جزءا رئيسيا من استراتيجية الملك الراحل، كانت ، بالإضافة إلى عوامل محلية واقليمية ودولية مشجعة، هي المصدر الرئيسي لقوة ‘ الإخوان’ ووحدتهم وصعودهم في الأردن وفلسطين ، منذ مطلع التسعينيات.
لم يغير ‘ الإخوان’ ، ولا يستطيعون ، بالنظر إلى عقليتهم وثقافتهم وتركيبتهم الاجتماعية، تغيير استراتيجيتهم المحلية والإقليمية، بينما غيّر النظام الأردني استراتيجيته إزاءهم. و بتواطئهم الفعلي مع الليبراليين الجدد ـ في برامج الخصخصة العزيزة على قلوبهم ، والمتسقة مع ‘ الشرع’، ومع مصالح الاستثمارات الإخوانية ونشاطات أعضاء الكادر الإخواني في قطاعات الطب والتعليم والعقارات وسواها ـ يجد ‘ الإخوان’ أنفسهم ، عاجزين عن الاستجابة لضرورات تنظير وتنظيم الاحتجاجات الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، فان القطيعة بين النظام الأردني و’حماس’، من جهة ، وتضاؤل نفوذ الإسلاميين كوسيط سياسي لفلسطينيي الأردن من جهة أخرى، أدى إلى انشقاقهم الداخلي غير المعلن بين أردنيين ـ معتدلين خارجيا وميالين إلى خطاب إصلاحي داخليا ـ وبين أردنيين من أصل فلسطيني ـ متشددين خارجيا ، أي مؤيدين ل ‘ حماس’ وميالين ، داخليا، إلى صدام يعبر، بالأساس ، عن الغضب الفلسطينوي. ومن المرجح أن ‘ المتشددين’ حرموا ‘ المعتدلين’ من الدعم في الانتخابات النيابية ، وهو ما سيقوض نفوذ الفريقين، ويكرس انشقاق ‘ الحركة’ . وقد يعود الفريقان ، مؤقتا ، إلى التضامن ، في مواجهة أنماط جديدة من رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يقدمون أنفسهم الآن كممثلين لمطالب’ المحاصصة’، في الحملة الانتخابية الحالية، لكن الاتجاه العام سيظل يتمحور على انشقاق ‘ الحركة’ وضمورها.
وعلى هامش التحليل ، لا بد ، بالطبع، أن نتذكر بقايا االتنظيمات القومية أو الفلسطينية العلمانية. ولكن مَن ذا الذي يأخذ نشاطاتها على محمل الجد؟ فهي تنتسب ، واقعيا، إلى طروحات ومناخات شبعت موتا، ولا يمكن إحياؤها في السياسة الأردنية بسبب وطنية المهمات المطروحة وأولوية طابعها الاجتماعي وتعقيدها غير المسبوق، في ظل الصراعات المتشعبة المحتدمة في البلد والإقليم.
وفي الفراغ السياسي الحاصل، هناك شبحان يلمحهما الرائي ، أولهما يستعد والثاني لديه الإمكانية لملئه: التيار السلفي الجهادي والتيار اليساري. كلاهما قادر على ادماج الفئات الشعبية ، في حركة واحدة، إما باتجاه وحدة الهوية الطائفية ( القاعدة) أو باتجاه وحدة الهوية الطبقية ( اليسار) والتعبير عن غضبها الاجتماعي والوطني: الأول بالعنف المسلح ، والثاني من خلال تنظيم حركة الاحتجاجات والاعتصامات والاضرابات وتنظيمها.
لكن التيار السلفي الجهادي ، بالطبع، لا يقدم ، وليس مؤهلا لتقديم برنامج لحل المعضلات التي تواجه التقدم الأردني. ومآل سيطرة السلفيين الجهاديين ، كما نعلم بالتجربة، كارثي، لجهة اتساقه مع برنامج الفوضى الأميركية، وتصفية النخب والبؤر الحضارية والنزعات الثقافية والمدنية، في مشروع رجعي وهابي، سوف يغرق البلاد بالدماء والدموع والقمع الأسود، ويهدد ، في النهاية، بتدمير كل منجزات الدولة الأردنية.
ذلك ما يجعل البديل اليساري ، ليس فقط ضرورة اجتماعية ، بل ضرورة وطنية ومدنية. وعلى عكس ما هو مقروء في الظاهر، فان حركة اليسار الأردني ، ليست جامدة أو منكمشة ، بل تمور بالتغيرات ، وتتوسع، إلا أن الحالة الانتقالية التي تحكمها، والتداخل الحاصل بين تياراتها الآفلة والصاعدة، لا يسمح للمراقب الخارجي باكتشاف جديدها، ولا يسمح إلا بالحديث عن خطوط فكرية وسياسية منبثة في التنظيمات والتجمعات القائمة التي لا يعكس أي منها خطا صافيا. هناك ، أولا، الخط الشيوعي التقليدي المتبقي من الحقبة السوفياتية. وهو في الأردن خط معزول تماما. وقد ساهم موقفه شبه المتطابق مع موقف الحزب الشيوعي العراقي من تأييد الاحتلال الأميركي للعراق، في اقصائه ، نهائيا، عن الحركة الشعبية الأردنية الواسعة المؤيدة للمقاومة العراقية، وثانيا، الخط اليساري القومي المتأسلم ، شبه المتطابق مع خط ‘ القاعدة’. وليس لهذا الخط أي تعبير تنظيمي أو جماهيري، لكنه يُستخدم من قبل منابر نافذة ( كالجزيرة) بما يعطي الانطباع الزائف بامتلاكه حضورا سياسيا، وثالثا، خط اليسار الديمقراطي. وقد أظهر ، منذ مطلع العقد الحالي ، قدرا كبيرا من الحيوية والفعالية والحضور، من خلال النشاط في إعداد برامج الإصلاح السياسي الحكومية، والتدخل الإعلامي والنيابي إلخ لكن الرجل الأول في هذا الخط، موسى المعايطة، يعترف صراحة بأنها أوهام انتهت مع تحول مشروع الإصلاح السياسي إلى’ نكتة ‘ ، والخط الرابع ـ والأخير ـ هو خط اليسار الاجتماعي . وهو خط صاعد يقترح النأي عن المقاربات العقائدية، أو التعاطي مع الاصلاحية السياسية الحكومية، والتركيز على استيعاب وتأطير حركة الاحتجاجات الاجتماعية،في مشروع سياسي وطني.
التطورات الحاصلة في البلاد ، تمنح اليسار الأردني، ربما لأول مرة في تاريخه، آفاقا للتحول إلى حركة سياسية جماهيرية فاعلة ، وقادرة، تاليا، على المشاركة الجدية في صوغ المستقبل الوطني. لكن ذلك ، يظل مرهونا بالتوصل إلى حلول فكرية وسياسية جديدة إزاء ثلاث قضايا رئيسية هي ( 1) أيديولوجية الوطنية الأردنية ، والدولة ودورها الخاص في المشرق العربي، ومحورية الصراع مع اسرائيل ( 2)اقتراح برنامج اقتصادي اجتماعي يوائم بين ضرورة تحقيق اختراق تنموي تنافسي على الصعيد الاقليمي وبين متطلبات الديمقراطية الاجتماعية ( 3) التحديث الثقافي .
joleft89@yahoo.com
الكاتب عضو لجنة التنسيق المركزية في حركة اليسار الاجتماعي الأردني