“كيس الملح” من كتف “الحرّاث” إلى كتف “الجنتلمان”… فهل يستطيع؟
بالحسابات الاجتماعية-السياسية، ليست لحكومة المهندس علي أبو الراغب، أغلبية برلمانية. فالبرلمان الحالي: تقليدي، بيروقراطي وعشائري؛ وحكومة أبو الراغب، على الضد، بورجوازية. والمهمة التي تنتظرها هي، بالذات، تفكيك البنى التقليدية. ولكن، طالما أن معظم النواب الأردنيين غير مسيّس وغير ملتزم، سوى “بالارتباطات” وبالمصالح الخاصة، فقد غدت الثقة النيابية، في نظامنا السياسي، تحصيل حاصل، أي بلا معنى.
بالمقابل، تحظى حكومة “الجنتلمان” بأغلبية مؤثرة في صفوف “الجنتلمن”: البورجوازية، بما فيها البورجوازية الصغيرة (النقابات المهنية، والصحافة، ونشطاء “المجتمع المدني”…) ولا غرابة. فحكومة أبو الراغب، تضم شخصيات محترمة، بعضها أتى من مواقع متقدمة في القطاع الخاص، وبعضها محسوب على الأوساط الوطنية والديمقراطية والإسلامية، وبعضها محسوب، بدون أدنى لبس، وسياسياً، على الكوتا الفلسطينية-وهذا أكثر بكثير من كون هذا البعض فلسطينيّ الأصل-وهذا كله يوحد البورجوازية وراء حكومتها الثالثة في أقل من عشر سنوات. وهي تأمل، هذه المرة، بالنجاح؛ والتحرر، أخيراً، من سيطرة البيروقراطية والقوى التقليدية، بعد فشلين مدويين: مع حكومة طاهر المصري(1992) التي تشكلت قبل الأوان، بينما كانت القوى التقليدية والإسلامية، ما تزال قوية جداً؛ ومع السيد عبد الكريم الكباريتي (1996) التي حاولت أن تحرق المراحل “بالثورة البيضاء” فأحرقتها انتفاضة الجنوب بعد أشهر من تشكيلها. فهل ستواجه حكومة أبو الراغب، المصير نفسه؟
للوهلة الأولى، قد تكون التوقعات متفائلة. فالضربات التي تلقتها القوى التقليدية بعامة، منذ التوقيع على المعاهدة الأردنية-الإسرائيلية العام 1994، تمهد الطريق أمام حكم البورجوازية. ولا توجد في البرلمان الحالي أو في الساحة السياسية، معارضة مؤثرة يمكنها أن تشل أبو الراغب كما شلت المصري. كذلك، فأبو الراغب يستند إلى تحالف أوسع وأقوى مما كان وراء المصري. وأبو الراغب، بالطبع، أكثر اعتدالاً من الكباريتي عداك عن أنه يحظى بدعم ملكي غير متردد. ومع ذلك، فالمشكلة أعقد بكثير، وتتعلق بصلب البنية الأردنية أكثر مما تتعلق بتوازن القوى السياسية-المتذبذب بطبيعة الحال-أو بالأشخاص أو بالإرادات.
المشكلة أن البورجوازية في بلدنا هشة سياسياً، ولا يمكنها أن تشكل قاعدة ثابتة للحكم الذي استند، بنيوياً وحتى الآن، على دعم القوى التقليدية.
والحكم لا يقوم-كما هو معروف-إلا بالاستناد إلى طبقة اجتماعية مهيمنة (كما هو الحال في الغرب) أو إلى عصبية مهيمنة متجسدة في بيروقراطية حكومية وعسكرية (كما هو الحال في البلدان المتخلفة، ومنها البلدان العربية.) ولقد تشكلت البورجوازية في الأردن، بالأساس، اصطناعياً، بالارتباط مع القطاع العام أو مع الرأسمال الأجنبي-وأحياناً بكليهما-وهي غير متدامجة اجتماعياً وسياسياً، ومغتربة ثقافياً وسيكولوجياً عن المجتمع المحلي وثقافته وسيكولوجيته. وبالمقابل، شكلت العشائر-وهي بنى اجتماعية ذات أصالة-عصبية متماسكة للدولة الأردنية، عبرت عن حضورها المنظم بوساطة بيروقراطية حكومية وعسكرية منسجمة نسبياً، وأقرب صلة بالثقافة والمجتمع المحليين. وهكذا كانت ممارسة الحكم، تحتاج، دائماً، إلى بيروقراطي قوي يوحد صفوف البيروقراطية، ويؤمن دعم العشائر، وينظم، بالتالي، عصبية الدولة. وقد كان ذلك يسيراً طالما كان هنالك نوع من التوافق المرن بين برنامج الحكم وطبيعته، على محور القطاع العام.
ولعل مأساة الحكم، منذ 1989، تكمن في أن هذا التوافق المرن لم يعد ممكناً؛ فقد وقع التناقض بين طبيعة الحكم (التقليدية) وبرنامجه البرجوازي (المفروض من صندوق النقد الدولي) وبات من العبث التوفيق بين “ضرورة” برنامج ينزع، بنيوياً، إلى إلغاء القوى التقليدية، وبين ضرورة تأمين دعم هذه القوى، بالذات، للحكم وبرنامجه!
البورجوازية عاجزة عن الحكم، بينما البيروقراطية لا تستطيع ذلك، إلّا بقدرتها على تمثيل العصبية التقليدية المهددة، جدياً، بالبرنامج البورجوازي! أليس هذا هو، بالذات، “كيس الملح” الذي شعر السيد عبد الرؤوف الروابدة أنه “نزل عن ظهره” كما قال لزواره عقب استقالته من رئاسة الحكومة!؟
والروابدة–وهو، بلا ريب، رجل دولة صعب المراس-ظل-لدهشتي-يسير على حبل مشدود، سنة ونصفاً، فلا هو وقع ولا الحبل انقطع، محاولاً اجتراح ما يشبه المعجزة في التعايش بين متطلبات البرنامج البورجوازي (التوطين والخصخصة الشاملة للاقتصاد والدولة) وبين متطلبات الحفاظ عل عصبية الدولة التقليدية، في مرحلة انتقالية كانت–وربما ماتزال-تحتاج-كلياً-إلى هذه العصبية.
وسير الروابدة على ذلك الحبل، هو سر “تباطئه” المقصود في تنفيذ البرنامج البورجوازي، مثلما هو سرّ لجوئه إلى سياسة الخطابة اللاسياسية عن «الوطن الأردني الأحلى…» بينما هذا “الوطن الأحلى” تهرسه الأزمات المزمنة. والمشكلة أن البرنامج البرجوازي لا يمكن، أميركياً، تأجيله إلى ما لا نهاية. كما أن العصبية لا تعيش ولا تتجدد، بمجرد الخطابة الفصيحة!
ومع ذلك، تفنن الروابدة في الانتقال بين الضرب على الحافر والضرب على المسمار: خصخص “الإسمنت” و “الاتصالات” ولكنه أبطأ، نسبياً، عمليات الخصخصة الشاملة، وحمى بيروقراطية الدولة. وبينما نفذ تعليمات صندوق النقد الدولي في غير مجال، وجه إلى ممثلي الصندوق، وإلى ممثلي رأس المال الأجنبي بعامة، ضربات مؤلمة.
واصطدمت اللعبة، أخيراً، بجدار، “العقبة”. فتحويل العقبة إلى “كانتون” خط أحمر بالنسبة إلى بيروقراطي أردني متجذر من أنصار الدولة. ولو فعلها لتحول إلى موظف، وفقد، نهائياً، كل حضور سياسي مستقبلاً.
اليوم، “كيس الملح” على كتف المهندس علي أبو الراغب!
وأبو الراغب غير الروابدة بالطبع، سوى أن المعادلة هي نفسها، “وكيس الملح” هو نفسه!
وهذا ما أدركه أبو الراغب، على كل حال، سريعاً، فتراجع، في بيانه الوزاري، عن اندفاعة التشكيل وإيماءاتها القوية إلى اعتدال يترجم وطأة “كيس الملح”. فقد لجأ البيان إلى تجنب تأكيد تلك الإيحاءات، بل إنه تجاوزها إلى إعلان موقف صريح يؤكد أن الأردن استنفد طاقته الاستيعابية، وأنه لن يستقبل، بعد، لاجئاً واحداً. وبالرغم من أننا نشكك في جدية هذا الإعلان، بالنظر إلى أن حقيبة وزارة الداخلية هي بين يدي الدكتور عوض خليفات–المجرب في هذا المجال-إلّا أن هذا الإعلان يظل في المنحى الإيجابي الذي يتعامل بواقعية مع تعقيدات المعادلة الأردنية.
ونتوقع أن تسير حكومة أبو الراغب إلى المزيد من الاعتدال؛ ومع ذلك، فإن كل المؤشرات ما تزال تؤكد أن الحكومة البورجوازية الثالثة تعمل تحت يافطة عنوانين عريضين:
- التوطين: بمعنى تحويل اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في الأردن إلى “طائفة” لها حقوق سياسية خاصة (كوتا)
- خصخصة العقبة بوصفها أنموذجاً لخصخصة البلد: بمعنى إنجاز البنية القانونية والسياسية والاجتماعية الملائمة لهيمنة رأس المال الأجنبي، بدون قيد أو شرط.
والمأمول هنا هو جذب التعويضات والاستثمارات “الفلسطينية” والأجنبية، على نطاق واسع، باعتبار ذلك هو الحل الوحيد الممكن للخروج من الأزمة الاقتصادية المزمنة منذ أواخر الثمانينيات.
ويصدر هذا النهج، للأسف، عن نزعة اقتصادية ضيقة، تتجاهل التعقيدات الاجتماعية-السياسية في البلاد؛ ولكن سرعان ما تفرض هذه التعقيدات نفسها، لتخلق، بالتالي، أزمة سياسية جديدة، تعود، بنا، إلى المربع الأول.
والأمر، أن هذا النهج يقودنا، إذا ما نجح، إلى طريق مغلق: فحصيلة الاستثمارات الأجنبية ستكون، بالصافي، سلبية، لأن المستثمرين الأجانب هدفهم الربح، وليس “دعم” الاقتصاد الأردني، وإذا لم يحقق هؤلاء أرباحاً صافية عن استثماراتهم فسيقفلونها. وكل ما سنحصل عليه، في هذا السياق الذي يدمر أساسيات الاقتصاد الوطني ويمنع تطوره الداخلي، هو زيادة محدودة في فرص العمل بأجور الحد الأدنى، يرافقها، بالضرورة، استمرار البطالة بنسب تحددها ضرورات تدني الأجور؛ فلن يكون هنالك، إذن، تشغيل كامل، ولا حتى بالمعدلات الحالية، لأن العديد من الفئات العاملة “القديمة”، ستلفظها البنية الاقتصادية الجديدة إلى رصيف التهميش. وهذه الفئات هي، بالذات، تلك التي تشكل عصب الدولة.
أبا الحسن: انتبه! إنك تسير في حقل ألغام …!