قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين: إعادة تعريف حان وقتها

*
بعدما تبلور الإجماع الأميركي ــــــ الإسرائيلي على توصيف الصيغة النهائية للدولة الإسرائيلية باعتبارها دولة يهودية، يمكننا القول إنّ الأساطير المؤسّسة للعملية السلمية على المسار الفلسطيني قد انهارت كلياً.
صحيح أنّ مشروع إنشاء دولة فلسطينية في الضفّة الغربية وغزّة هو، أيضاً، وهم كانت قد أكلته المستوطنات والطرق الالتفافية والجدار وإسرائيلية القدس، إلا أنّ هذا الوهم ظلّ قابلاً للتجدّد ما دامت هذه العناصر موضع تفاوض ثنائي بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين الذين يراودهم الأمل بأن الضغوط الأميركية ــــــ الناجمة عن الضغوط العربية سوف تسهم في النهاية بتحسين شروط التسوية.
لكن، مع «يهودية» إسرائيل، نحن بصدد إطار صلب، خارج المفاوضات، هو في النهاية قرار إسرائيلي «سيادي» من جهة، ومآل حتمي لـ«حلّ الدولتين»، من جهة أخرى. وكان الرئيس الأميركي جورج بوش قد ربط، صراحة، بين إنجاز ذلك الحلّ وبين الاعتراف الفلسطيني بـ «يهودية» إسرائيل. ولم يصدر عن مسؤولي السلطة الفلسطينية أي اعتراض على ذلك الربط. بالعكس، هوّن كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، من ذلك المطلب الأميركي ــــــ الإسرائيلي بقوله «هي دولتهم. فليسمّوها كما يشاؤون». وهذا ليس سوى أنموذج على العقلية المازوشية المسيطرة في أوساط السلطة الفلسطينية.
غير أن إسرائيل ليست، في التوصيف الحقوقي، «دولتهم». إنها، حسب قرار التقسيم (181 لعام 1947) دولة لمواطنيها من اليهود والعرب، تضمن لكل منهم، شخصياً، «حقوقاً متساوية وغير تمييزية». وبذلك، فهي دولة العرب الفلسطينيين الذين هم مواطنوها الآن فعلاً، مثلما هي دولة أبناء جلدتهم الذين هُجّروا منها جراء أعمال العنف. ويضمن القرار الدولي ذاك عودتهم إلى إسرائيل، وحصولهم على الجنسية الإسرائيلية وحقوق المواطنة في إطار الدولة الإسرائيلية.
ويمثّل هذا التوصيف الحقوقي المنصوص عليه في متن الاعتراف الدولي بإسرائيل ومضمونه، الأساس الذي قامت عليه أطروحة السلام برمتها. إذ من غير المعقول أن يكون الاعتراف الفلسطيني أو العربي بإسرائيل مخالفاً للشرعية الدوليّة. والدولتان العربيّتان اللتان اعترفتا بإسرائيل، مصر والأردن، لم تخرجا عن الشرعية تلك، من حيث إلحاحهما على حلّ القضية الفلسطينية وفقاً للشرعية الدولية، أساساً لعقد معاهدتي السلام على المسارين المصري والأردني. وعلى رغم كل ما قيل من نقد صحيح لهاتين المعاهدتين، فإن مشروع «يهودية» دولة إسرائيل ينقض أسسهما القانونية والسياسية. وبالنسبة إلى الأردن، فهو ينقض أيضاً المضمون العملي لمعاهدة وادي عربة (1994) التي تنصّ صراحة على أن عقدها يقع في إطار عملية سلمية على المسار الفلسطيني، تتضمّن تطبيق القرار 194 بالتفاهم الإقليمي والدولي.
كثيراً ما عُرضت قضية عودة اللاجئين بطريقة ملتبسة، شعاراتيّة، تخجل من واقعيتها المريرة، ولكن الضرورية من أجل توصيفها القانوني الصحيح، ووضعها على جدول الأعمال الفلسطيني والعربي والدولي. ولعلّه حان الوقت لكي نعيد تعريف تلك القضية باعتبارها قضية مواطنين إسرائيليين، وفقاً للقانون الدولي، ترفض دولة إسرائيل منحهم الجنسية وحقوق المواطنة، وعلى رأسها حقّ الإقامة في دولتهم.
وسوف نلاحظ هنا على التوّ، أن هذا التعريف للقضية يخرجها كلياً من قضايا المفاوضات الثنائية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. فهي أولاً، قضية مواطنين «إسرائيليّين» محرومين الجنسية والوطن بسبب السياسات العنصرية للسلطات الإسرائيلية، وهي ثانياً، قضية تتعلّق بحقوق دول الاستضافة الرئيسية (الأردن ولبنان وسوريا) من حيث أن لجوء مواطني القسم الإسرائيلي إليها حدث جراء حالة حرب لا يمكن إلغاؤها من دون عودة أولئك المواطنين إلى ديارهم.
وقضية العودة، على مستوى آخر، هي قضية تتعلّق بالأمن القومي العربي. إذ إنّ زيادة وزن المكوّن العربي في إسرائيل، هو الضمانة الأكثر ديمومة لإحداث تغيير نوعي في البنية الإسرائيلية باتجاه التغلّب على نزعاتها العدوانية والتوسّعية، وتعريب شروط اندماجها في المنطقة، في إطار حلّ تاريخي يقوم على التوحيد الديموقراطي للكيانات المشرقية، يعترف بالمكوّنات الدينية والإثنية والخصوصيات المحلية…
في المقابل، فإن «يهودية» دولة إسرائيل، عدا عن كونها تحرم ملايين الفلسطينيين حقهم في مواطنتها، فإنها تعني تقعيد الطابع العنصري والعدواني والانعزالي لدولة إسرائيلية يهودية صافية، لا مكان لها في المشرق، ويفتح وجودها أبواب الصراع والحرب الدينية إلى ما لا نهاية.
نحن، إزاء «يهودية» دولة إسرائيل، في لحظة تأسيسية جديدة في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، تحتاج إلى تصور استراتيجي جديد لدى القيادات العربية والفلسطينية، الرسمية والشعبية. ولا يقع أو ينبغي ألا يقع الجدل بشأن داك التصوّر في خانة الخلافات العربية القديمة المستهلكة. فـ«الاعتدال» و«الممانعة» معا أصبحا الآن من الماضي. «فتح» و«حماس» أصبحتا من الماضي، وشعار الدولة المستقلة بلا معنى، بينما شعارات الرفض بلا أفق.
المطلوب في مواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة، استراتيجية عربية جديدة، أرى خطوطها العامة كالآتي:
– أولاً، إن مشروع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة لا ينهي الملف الفلسطيني من دون حقّ العودة إلى إسرائيل. وشطب هذا الحقّ لا يدخل تحت مظلة المفاوضات الثنائية الفلسطينية ــــــ الإسرائيلية، كما أنّ الدولة الفلسطينية العتيدة، بحدّ ذاتها، ليست ممكنة واقعياً، في ظلّ التغييرات التي أجراها الاحتلال في الضفة الغربية ويجري التفاوض على أساسها، لا على أساس رفضها من حيث المبدأ.
– ثانياً، في مقابل شعار «يهودية» إسرائيل، هناك شعار واحد ممكن، هو شعار علمانية فلسطين. ويستدعي تبنّي هذا الشعار العودة إلى رفض تقسيم فلسطين التاريخية، وحلّ «السلطة»، والنضال السلمي ــــــ باعتباره نضالاً داخل الدولة نفسها ــــــ ضدّ التمييز العنصري وحالة الطوارئ الموجّهين ضدّ العرب، والمطالبة بنيل حقوقهم الكاملة في المواطنة والدولة الثنائية القومية، بما في ذلك الحقّ في عودة أصحاب الحقّ في مواطنة الدولة العلمانية إلى ديارهم في دولة واحدة موحدة.
– ثالثاً، إن الاتجاه إلى حلّ تاريخي للقضية الفلسطينية يقوم على أساس دولة علمانية مزدوجة القومية، تقوم على الإخاء العربي ــــــ اليهودي، يلغي الأساس السياسي والأخلاقي للعنف المسلّح داخل فلسطين، ويعيد طرح القضية (على نحو ما كانته قضية جنوب أفريقيا) باعتبارها قضية تفكيك نظام عنصري عدواني، واستعادة حقوق المواطنة والثقافة والحياة والوحدة للفلسطينيّين. وسوف تؤدّي هذه الاستراتيجية إلى استنهاض المجتمع الفلسطيني (الذي يشيح، حالياً، عن القوى الفلسطينية المتصارعة وبرامجها التصفوية أو الشعاراتية) للنضال السياسي الدؤوب المغطّى بأوسع تأييد دولي، انسجاماً مع التقاليد العالمية في محاربة التمييز العنصري.
– رابعاً، إذا لم تتّجه القوى الفلسطينية إلى هذا الخيار الاستراتيجي، فلا بدّ من سحب التفويض العربي الممنوح لـ«السلطة الفلسطينية» في إدارة مفاوضات مع إسرائيل تشمل قضايا اللاجئين، والأمن، والحدود، وإعادة طرح هذه القضايا باعتبارها قضايا عربية، المعني والمسؤول عنها دول الجوار واللجوء، أعني الأردن وسوريا ولبنان. وعلى كل حال، ففي ما يتّصل بالأردن حيث يتمتّع اللاجئون الفلسطينيون بالمواطنة الأردنية، فليس هناك أي منطق قانوني أو دستوري أو سياسي يسمح بتفويض «السلطة» بحث قضية تخصّ مليوناً وأربعمئة ألف مواطن أردني لهم حقوق في العودة والملكيات والتعويضات، جراء تشريدهم في حرب الـ48 وليس هناك أي أساس لإنهاء حالة الحرب على الجبهة الأردنية، من دون إغلاق هذا الملف.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.