قضايا المشرق | حوران الكبرى أو شرق الأردن حفرية أنثربولوجية في ثقافة البدو ـ الفلاحين 

من جنوبيّ دمشق إلى معان الشامية، منطقة واحدة تمثّل أحد مجتمعات المشرق العربي: حوران الكبرى أو ديرة الأنباط ومملكة بترا أو ديرة الغساسنة وملجأ الأمويين أو شرق الأردن.
الدراسات اللغوية اللهجوية، تشير إلى وحدة المنطقة التي تسود فيها اللهجة الحورانية من جنوبي دمشق حتى حدود البلقاء الجنوبية، لتبدأ من بعدها شقيقتها اللصيقة اللهجة المؤابية. وتشكل اللهجتان عائلة لغوية واحدة، تعكس وحدة التكوين الاجتماعي التاريخي، الظاهر، حتى منتصف القرن العشرين، في تراث الإنتاج البدوي ـ الفلاحي، وعادات الغذاء والضيافة التي درسها مؤلّف ضخم للزميل ناهض حتر (بمشاركة أحمد أبو خليل وفريق من الباحثين)، ويصدر في بيروت قريباً تحت عنوان: «المعزّب ربّاح». ننشر ههنا مقدمة الكتاب للزميل حتر.

اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، بدأ العثمانيون سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى تأمين منطقة شرق الأردن، التي أظهر غزوها (1833) من قبل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا، حاكم مصر، موقعها الاستراتيجي بالنسبة إلى أمن بلاد الشام والحجاز، وخصوصاً تأمين طريق الحج الشامي المارّ حكماً في الأراضي الأردنية، والواقع تحت رحمة القبائل البدوية، التي طالما هددت هيبة الدولة العثمانية بالتعرّض لقوافل الحج التي عُدّ تسييرها وحمايتها واجباً دينياً وسياسياً رئيسياً للسلطان.

وكان درء المخاطر عن الحجاج يتطلب تسديد خوّة سنوية للقبائل التي تنازع الدولة، وتتنازع في ما بينها، على السيادة على طريق الحج.
خطة العثمانيين سارت في اتجاهين: تكوين الإدارات المحلية في إربد (1851) ثم في السلط (1861) ثم في الكرك (1893) ونشر قوى الأمن، وتشجيع الاستقرار الزراعي من خلال توفير الحماية للقرى، والشروع في إنشاء قرى فلاحية جديدة على طريق الحج من خلال نقل مهاجرين من القفقاس لتأسيس أو تعزيز قرى زراعية في عمان ووادي السير وجرش والرصيفة والزرقاء وصويلح وناعور، استقطب بعضها فلاحين وبدواً محليين للاستقرار، أو من خلال تشجيع هجرات داخلية كالتي قامت بها عشائر كركية إلى مأدبا وماعين، أو استقرار عشائر سلطية في الفحيص وصافوط والرميمين وناعور، أو السماح لعائلات مصرية بالاستقرار في سحاب أو حتى بدعم استثمارات زراعية مكثفة كما في اليادودة وبعض مناطق بني صخر، اعتماداً على فلاحين من فلسطين.
شهدت البلاد نهضة في الإنتاج الفلاحي، حوّلت واقع المجموعات السكانية من البداوة وشبه البداوة إلى الاستقرار وشبه الاستقرار نصف الفلاحي نصف البدوي. وتكوّن فائض في المنتجات الزراعية اتجه نحو التصدير للأسواق الخارجية، ونشأ عن ذلك وفود واندماج فئات اجتماعية جديدة من التجار والحرفيين الذين قدموا لخدمة مجتمع بدأ يتحرر من نمط الاكتفاء الذاتي ويغتني نسبياً ويرنو إلى تلبية احتياجات جديدة. من جهة أخرى، أدى الوضع الجديد إلى ظهور الاتجاه إلى التعليم النظامي الذي وفّرته، بداية، مؤسسات كنسية وافدة. ويمكننا القول إن المجتمع الأردني الحديث قد تأسس في تلك الفترة بالذات، أي اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، وانعكست عملية التأسيس تلك سياسياً في خطة عثمانية (1878) لإقامة ولاية خاصة بالمناطق التي تشكّل الأردن الحالي سُميت في الخطة «ولاية عمان» أو «معمورة الحميدية».
لا يزال المنسف (ذلك الطبق البسيط المكوّن من لحم الخروف أو الجدي المطهوّ باللبن المخيض أو بمريس الجميد مع جريش القمح المفلفل بمرق اللحم والسمن ـ وقد حل محله اليوم الأرز المفلفل المزين بالمكسرات المقلية) سيّد المائدة الأردنية، والأكلة الألذ لدى الأرادنة، والطعام المعتمد في الأعراس والمآتم واللقاءات العشائرية والسياسية. ورغم أنه تحوّل إلى طبق يُقدّم في مطاعم عامة أو يُطهى لغداء العائلة أو عشاء الأصدقاء، فإنه لم يفقد هالته الأسطورية في الثقافة الشعبية الأردنية. وقد كانت العشائر تتباهى بسعة السدور التي تقدّم عليها المناسف. يوضَع، أولاً، الجريش المفلفل ثم يُغطّى بالشراك، ثم توضَع فوقه قطع اللحم، ويشرّب باللبن المطبوخ. وبعكس العادات الحالية، كان الأرادنة يقطّعون اللحم قطعاً صغيرة، وذلك بما يكفي أدواراً عديدة من الآكلين المتتابعين على المنسف نفسه. وهو ما يدلّ على نزعة اقتصادية لا إسراف فيها، ويستلزم آداباً في الأكل سيأتي الحديث عنها.
ليس المنسف مجرد طبق، بل هو تكثيف ثقافي لشخصية شرق الأردن الاقتصادية والاجتماعية. ففي هذا الطبق ـ المبجّل، تقليدياً، كطعام ذي رمزية ثقافية ـ يتحد عالمان: عالم البداوة المستقرة (ومنه لحم الضأن ومريس اللبن الجميد والسمن) وعالم الفلاحة البعلية (ومنه عويص الشراك وجريش القمح أو البرغل أو الفريكة).
والمنسف ليس طبقاً بدوياً بالتأكيد. فلا لبن الإبل صالح للخض والجميد والطبخ، ولا لحم النياق صالح ليطهى في اللبن، لأنه، في هذه الحالة، يشدّ ويقسو ولا يؤكَل، بل يطبَخ لحم النياق بالماء، ويُسكَب مرقه على فتيت الخبز الشراك، ويوضَع فوقه اللحم المسلوق. وهذا هو الثريد المشهور عند العرب.
المنسف هو تكثيف للتركيب الاجتماعي الأردني التقليدي الرئيسي المنسوج من عشائر نصف بدوية ـ نصف فلاحية (بالأساس: مزارعي حبوب ومربي ضأن وماعز) هنالك، بالطبع، انزياحات بدوية (يربون الإبل أيضاً. وهو ما يسمح لهم بمساحة تحرّك أوسع) وفلاحية (يزرعون البساتين والخضروات ويربون البقر والدجاج أيضاً كما، تحديداً، في الشمال الأكثر اقتراباً من عالم الفلاحين).
ينقل الدكتور يوسف غوانمة عن مصادر أصلية «أن المنسف كان من الأكلات الشائعة في الفترة المملوكية (…) ومن الطريف أن الأرادنة، في تلك الفترة، كانوا يستخدمون الأرز، إلى جانب البرغل، في إعداد المنسف. وربما كان ذلك بسبب ازدهار الصلات السياسية والتجارية، وقتذاك، مع الديار المصرية» (يوسف غوانمة، «التاريخ الحضاري لشرقي الأردن في العصر المملوكي»، 1982، ط2، دار الفكر الحديث بعّمان).
الرشوف (من مريس اللبن الجميد وجريش القمح والعدس والسمن الحيواني والبصل) الطبق اليومي الواقعي في شرق الأردن التقليدي، أبلغ في التعبير عن ذلك الاتحاد بين عالمي البداوة المستقرة والفلاحة. لكنه، كعشرات الأطباق التي تقوم على المزج بين مشتقات اللبن ومشتقات القمح، يفتقر إلى الرمزية التي أحاطت بالمنسف الذي لم يكن يُطهى إلا في احتفال كبير، وفي حالات محددة احتفالية مثل استقبال الضيف البعيد المهم وتدشين البيت الجديد والولادة والفرح والترح.
البشر هم أبناء الأرض. وتضاريس شرق الأردن هي التي شكّلت المجتمع المحلي عبر آلاف السنين. حركات أرضية عنيفة أدت إلى التصدّع الغوري، ورفعت سلاسل من الهضاب العالية التي تحولت إلى جزيرة رطبة من المرتفعات تطلّ على شاهق من الجروف غرباً باتجاه وادي الأردن ووادي عربة، وتتهادى، بانسياب، إلى الصحراء المفتوحة شرقاً، تفصلها وديان داخلية لم تؤثر على بنيتها المتصلة من الهضاب العالية الرطبة.
تشابكت الأنماط الفلاحية والبدوية، وتكثفت في سيادة نمط موحد يتألف من زراعة الحبوب، وخصوصاً القمح (وإعداد وحفظ مشتقاته للغذاء كالطحين والجريش والبرغل والفريكة)، وتربية الأغنام، ومعالجة تدفق الكميات الضخمة من الحليب في الموسم الربيعي من خلال تحويل الحليب إلى سمن وجميد. وهنالك، بالطبع، منتجات أخرى عديدة، تدخل في التقليد الغذائي، بعضها أساسي كمنتجات الكروم والنباتات البرية والخضروات والمقاثي، وبعضها ثانوي كاللحوم الحمراء والبيضاء، وبعضها موقوت في موسمه فقط ـ لا يُحفَظ ـ كالألبان والزبد والقشدة.
الحبوب والحليب هما عماد المطبخ الأردني التقليدي. ومنهما تتنوع المائدة، أطباقاً عديدة، ومنها الطبق الاحتفالي، المنسف المحاط بهالة ميثولوجية، وخصوصاً أنه يرتبط بالذبائح. ولا ذبيحة، في التقليد الغذائي الأردني، من دون ميثولوجيا المناسبات الحياتية، كالزواج والولادة والوفاة والسكن إلخ. لكن في قمة المناسبات الميثولوجية، تأتي الضيافة.
كلّ مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع نصف البدوي ـ نصف الفلاحي، يمكن تكثيفها في ميثولوجيا الضيافة. فالضيف ليس هو الشخص الزائر، بل هو تجسيد لزيارة المطلق إلى المطلق في المطلق. الضيف هو «ضيف الله»، والضيافة ضرب من عبادة.
الضيافة، كما لاحظ جاك دريدا، هي «قانون إنساني مطلق وغير مشروط ويتسم بالغلوّ؛ أنْ نعطي للقادم كل مأواه وذاته وخصوصيته وخصوصيتنا من غير أن نطلب منه اسمه ولا مقابلاً»، إنما في «تناقض (مستمر ومستحيل) مع قوانين الضيافة ذاتها» التي تجعلها مشروطة بتفصيلات معقدة».
في هذا التناقض تنكشف الضيافة (نصف البدوية ـ نصف الفلاحية) لا عن أعراف كرم نبيل، بل عن شبكة علاقات تنغرس ماديتها بصلابة في مجمل عملية إنتاج الحياة نصف البدوية ـ نصف الفلاحية، وإعادة إنتاجها. لكن الإنسان، بالطبع، يهرب من ثقل الشروط المادية إلى رهافة المطلق وتلاوين الثقافة الروحية.
من سوء حظ دريدا أنه لن يكون بإمكانه بعد أن يطلع على غنى التجربة الإنسانية للضيافة كما تجلت في مجتمع عربي عشائري غير منقسم طبقياً ومهجّن بين البداوة والفلاحة. لكانت تلك التجربة قد أسهمت في تعميق أسئلته الفلسفية بشأن الضيافة.
البدوي ـ الكامل البداوة ـ ليس مضيفاً إلا في شروط محددة. إنه مقاتل بالدرجة الأولى. وجَمَلُه ليس وسيلة إنتاج، بل وسيلة نقل يمكنها أن تحمله وتمنحه القدرة على الحياة داخل الصحراء التي تحميه من مطاردة الجند. البداوة علاقة سياسية تؤمّن مستلزمات حياة البدوي. وضيافة البدوي يمكن فهمها في سياق هذه العلاقة فحسب؛ أي كنظام من الشروط المرافقة واللازمة للعلاقة السياسية داخل البداوة نفسها، وليس خارجها، حيث الخارج (الفلاحون والدولة) هو الجهة التي تتنازل للبدوي عن قسم من الثروة المنتجة أو المحصّلة من المنتجين، لقاء تلافي الحرب.
الفلاح هو الآخر ليس مضيفاً بالمعنى المطلق. إن مبلغ كدحه، المهدد من الطبيعة والدولة والبداوة، باستمرار، لقاء حياة من الكفاف، تدفعه إلى الحرص. الحرص هو أساس الثقافة الإنتاجية للفلاح الكادح الحذر المتشكك الذي لا يضمن له شقاؤه في العمل المضني، نتائج أكيدة، بل محتملة ومعرّضة للخطر.
لكن، ماذا إذا استقرّ البدوي في مرتفعات ووديان زراعية على سيف الصحراء، كما هو حال شرق الأردن؟ سوف يتخلى عن الجَمَل ويفلح الأرض ويرعى الغنم، لكنه لن يتحوّل إلى فلاح أبداً. فما دام مهدداً من الصحراء المحاذية باستمرار، سيحتفظ بسلاحه وبعضوية المنظمة السياسية المقاتلة التي هي العشيرة القائمة على نسيج معقد من قرابة الدم والنسب والتحالفات. وبقدر ما يحتاج إلى عضوية العشيرة، فسيخضع لشروطها؛ فلا مُلْكية فردية خاصة للأرض التي تظل مُلْكاً جماعياً، ولا تحلّل من التزامات العلاقة السياسية مع القريب والحليف، ولا تخل عن ثقافة القتال، ولا خضوع فردي للدولة، ولا خوف على الذات والعائلة من الفشل والجوع في ظل نظام تضامني.
النسبة الغالبة من الأردنيين هي ذلك البدوي الذي تحوّل منتجاً فلاحياً، وبقي عضواً في عشيرة. إنه نصف بدوي ـ نصف فلاح، متحرر من الاشتراطات البدوية والفلاحية معاً. وهكذا، سيكون لدينا المضيف المنسجم مع قانون الضيافة المطلق. رجل حر يملك غذاءه وشرابه، يغادر مستقرّه القروي إلى عزب ناء عن بيته الدائم، في حقلٍ لزرعهِ أو كرمٍ لدواليه وتينه أو مرعىً لغنمه. هنا، حيث يقيم في مصفوفة من الحجارة الغشيمة يدعوه «قصراً» أو في كهف أو في خيمة، وحيداً عَزَباً، سوف تمرّ به لتلقى الضيافة. الضيافة، في هذه الحالة، ليست خياره. إنها واجبه المحتم المؤكد الذي لا فكاك منه، إزاء الغريب. إنه، وقد تموضع في عِزْب للعمل وأعدّ عدّة الإقامة في الخلاء، موئلاً ومأكلاً ومشرباً، منذورٌ كلياً لكي يكون مضيفاً. ليس بمستطاعه ألا يكون مضيفاً، وليس على الغريب المارّ أن يسأله الضيافة أو حتى أن يخطر في باله ألّا يلقى الترحاب الأكيد من مضيف مطلق، يد الله هي التي صاغته كمضيف ليس له خيار. ليس كريماً، بل هو موجود، هنا والآن، لكي يستضيف الغريب المارّ في خلاء لا يتركه الله بلا مستراح أو نار أو طعام أو شراب، لدى مضيف هو المسمى المعزّب – المعزّبين.
المعزّب ـ المكرَّس للعمل في العزب ـ لا يُعرَّف بعمله أو بشروط عمله، ولكنه يتماهى مع كونه المضيف الخاضع لاشتراطات وظيفة مطلقة لا يعاندها، والكلّي الجود، الرّحب المراح والصدر، والمُلهَم بكرم اللسان، بالبشر يطفح من وجه مأمور بتلقّي عيون الضيف بعبودية الضيافة. «وإني لعبدُ الضيف…»، هذا ما يُسمّى «الملاقاة».
تغدو هذه الوضعية مطلقة، بالانتقال من العِزَب إلى المستقرّ. فالمضيف، في منزله الدائم، هو معزّب أيضاً. وحالما يحلّ الضيوف يصبح أهل البيت معزّبين، بل تنتقل الوضعية إلى الزوجة، فهي معزّبة لزوجها. وفي ذلك معنيان: أن بيت الزوجية هو بيت الزوجة، وأن زوجها مكرّمٌ في جنباته كضيف، وله، إضافة إلى حقوق الزوج، حقوق الضيف أيضاً! لكن المرأة التي ترافق الرعاة أو الحراثين، في العزب، لتطهو طعامهم، تدعى عزبيّة وجمعها عزبيات.
ولكن، لمَ يكون المعزّب ـ المضيف، رابحاً، بل ربّاحاً؟ إنه، كذلك، لأنه، أولاً، يستجيب للواجب المطلق، يربح الضيف ويربح كرامته الإنسانية في مجتمع يلتئم على الضيافة. ثم إنه يربح، ثانياً، التكريم المعنوي، وثالثاً، التكريم الفعلي حين ينقلب بدوره إلى ضيف، ليس على أمل السداد، ولكن في سياق مطلق أيضاً.
على مستوى عملي، يربح المعزّب، إطعام أهل بيته وعزوته وجيرته. فالضيافة هي إحدى المناسبات المعدودة التي تُذبَح فيها الخراف في اقتصاد إنتاجي يتعامل مع الحلال كوسيلة لإنتاج الحليب ومشتقاته من جميد وسمن (وأيضاً الصوف والشعر) وكسلعة نقدية، لا كموضع استهلاك. الأرادنة ليسوا آكلي لحوم، ومائدتهم تقوم على الحليب والقمح. ولذلك، فإن ذبيحة الضيف، تعدّ مَغنْماً للمعزّبين ومَن حولهم بوصفها احتفالا بأكل اللحم.
وفي تقصينا للعادات الإيمانية الشعبية في شرق الأردن، وجدنا أن الذبيحة كانت أهم من الصلاة للتعبير عن البعد الإيماني من التقرّب لله وأنبيائه وأوليائه، ودرء الشرور والمصائب، واستنزال الرحمة.
وترتبط الذبائح، عند الأرادنة، بمناسبات محددة، توضح أغراضها الميثولوجية بصراحة. وقد حصر العلامة روكس بن زائد العزيزي ـ الذي تدين له هذه المقدمة بالكثير ـ مناسبات الذبائح في شرق الأردن، كالآتي:
في المسكن: ذبيحة العقد. ولاحقاً، ذبيحة الباطون، ذبيحة الصبّة (لدى صبة سقف البيت،) ذبيحة البيت = ذبيحة الدار = ذبيحة العتبة. لدى السكن في منزل جديد، ذبيحة الجيرة للجار الجديد.
في الزراعة: ذبيحة الحصيدة، ذبيحة البيدر، ذبيحة الجورعة – عند نهاية الحصيدة تُترك بواقي من الزرع للفقراء، وتُذبَح لهم ذبيحة، ذبيحة الطاحونة.
في العرس: ذبيحة الجاهة، ذبيحة الفاردة، ذبيحة القرى ـ الدخلة، ذبيحة الزوّارة ـ لدى زيارة العروس لأهلها.
الميلاد والأولاد: ذبيحة الولد، ذكراً أو أنثى. وتسمى عقيقة، ذبيحة الطهور عند المسلمين وذبيحة العماد عند المسيحيين.
الغنم والحليب: ذبيحة الغنم ـ القرينية، ذبيحة السعن أو السقا.
المعاملات: ذبيحة الشراكة، ذبيحة الصفاح، ذبيحة الكسب.
الدين والمعتقدات: ذبيحة الضحية (عيد الأضحى)، ذبيحة سماط الخضر، ذبيحة سليمان بن داهود، ذبيحة دانيال، ذبيحة الحليّة، ذبيحة النذر.
الموت: ذبيحة القبر، لدى دفن الميت.
الفرس: ذبيحة الفرس، عند شرائها.
الضيف: ذبيحة الضيف.
فللذبيحة، إذاً، بعد ميثولوجي صريح أو مضمَر. ومن ملامح هذا البعد، أن رأس الذبيحة يوضَع على المنسف في وضع إعلان الفرح أو الحزن، فيكون في الأعلى مرفوعاً في الأفراح، ومعكوفاً هابطاً في الأتراح.
وفي تقصينا للعادات الإيمانية الشعبية، وجدنا أن الذبيحة تحتل الموقع المركزي فيها، قبل الصلاة والصيام.
وبما أن مناسبات الذبائح موسمية أو مرتبطة بأحداث محدودة التكرار، فإن ذبيحة الضيف هي الأكثر احتمالاً وتكراراً، ولا ترتبط بموسم ولا بحدث. الضيافة، هنا، هي المناسبة والحدث. وهي تأتي كجائزة للمعزّبين الذين، بقيامهم بواجب الضيافة، يربحون مناسبة أخرى للذبيحة وتناول اللحوم.
إلا أن هنالك مَن يتهرّب من قانون الضيافة المطلق، فيسقط أخلاقياً واجتماعياً، ويسمى «عدوماً» من العدم ، فكأنه غير موجود ـ ويغدو مضرباً للمثل السيئ الذي يتحاشاه الرجل الغانم:
ما هو اللي للمَرَه يقول حيذور
لا تذكريني لن كان طارش لفانا
أي ليس ذلك الذي يقول لزوجته أنكري وجودي إذا جاءنا ضيف عابر. ولفى: حلّ ضيفا، والملفى المنزل والإقامة. وبينهما، كما هو واضح، رابط يتعلق بالضيافة. فالمنزل للضيوف.
وللضيوف حقوق أساسية، معنوية ومادية، حتى لو كانوا على خصومة أو عداوة مع المعزّب. ومن حقوق الضيوف: التهلّي والترحيب، وربط الخيل، وتقديم العلف لها، وبسط الفراش، وتقديم القهوة، وتقديم الطعام، والإكرام، والمساواة بين الضيوف في الإعزاز، وتلبية الطلب، وقبول الاستجارة والدخالة والطنابة.
الضيف، عند الأرادنة، أمير إذا أقبل، له إكرام الأمير، وأسير إذا جلس، فهو ملزم بالأدب والحشمة والتمثل بالعادات والقيم المرعية في المجلس والكلام والطعام، وشاعر إذا رحل، يلهج بمديح المعزبين لما لاقاه من حفاوة.
يقدّم المعزّب، القهوة للضيف حالما يحلّ، ثم الطعام بغض النظر عن ساعة حضوره، ويكون من حواضر البيت، على أن يذبح له ويولم ويدعو الأهل والجيران لمشاركة الضيف، طعام المنسف. وحين يدعو المعزّب الضيف للأكل، يلزمه الأدب، الاعتذار عن التقصير، فيقول: «اعذرنا من القصور»!
يقدَّم الضيف على سواه، ومعه كبار السن والقدر، ولا يبدؤون الأكل، حتى يسمح المعزّب بالقول: «سموا بالرحمن على واجبكو».
وللمعزّب إزاء الآخرين ما يسمى «حق الملحة»، أي الاعتراف المعنوي بالحماية الشاملة التي يسبغها المعزّب على ضيفه، فلا يُهان الأخير ولا يُطلب ولا يُؤذى، ما دام في ضيافة المعزّب. ومالح يمالح ـ رغم أنها تشير، في الأصل، إلى الحليب، وهو من معاني الملح ـ هو مَن أكل لقمة أو شرب لبناً أو ماءً في بيت، فيملك، عندها، حق الحماية من قبل صاحب البيت. ولا ينتهي هذا الحق إلا حينما يمالح الضيف، بيتاً آخر. لكن البيوت لا تتبارى في الضيافة. فالمناصاة في الكرم مذمومة، لأنها تمسّ مبدأ المساواة.
والمؤاكلة إعلان للأخوّة. ولذلك، لا يؤاكل الرجل زوجته، فهي تصبح، بذلك، أختاً له لا تحل له زوجة. وليس ذلك من قبيل التمييز ضد المرأة، فالرجل يؤاكل أخته، ولكنه يدلّ على عقيدة عميقة في أخوّة المشاركة في الأكل.
وأسوأ ما يفعله المعزّب، بالمقابل، هو إكرام بعض الضيوف وإهمال بعضهم. يقول الشاعر:
أوّل السَبْع التلوفْ
عزلكْ ضيوفٍ عن ضيوفْ
والسبع التلوف هي العادات السيئة المتلفة للكرامة الإنسانية.
المعزّب لا يأكل، بل يخدم. وقبل ذلك وبعده، هو ملزمٌ بالأدب المرافق للضيافة، فيحدّث الضيف بما تميل إليه نفسه، ولا يشكو الزمن في حضرته، ولا الفقر ولا المرض، ولا ينعس ولا يتثاءب أو يغضب لشأن من الشؤون.
إلا أنّ على الضيف واجبات أيضاً. فلا يستغلّ قانون الضيافة، لكي يُلحِز، أي يقيم رغماً عن رغبة المعزّب، فيصبح (مُلْحِزا وملحزة). ولذلك، يقال: «ضحكة السنّ بتجيب الضيف المخمّ».
وأجلب الضيوف للشرّ، زيارة المرأة الحائض للمرأة النفساء قبل الأربعين. وتسمى هذه الزيارة «كبسة». ولا يستطيع الضيف، رفض تناول الطعام حين يقال له: «افلح». ذلك أن الفلاح لا يُلطَم. ومن المعيب على الضيف ـ والآكلين معه ـ أن يمس رأس الذبيحة ـ فيُطلَب عندها للحق ـ أو أن يستخدم يده اليسار، أو أن يمد يده إلى اللحم في أعلى المنسف أو اللحم عند جاره. لكن الرجل الكريم الذي يقطع اللحم من أمامه، يدفنه تحت الجريش ليجد الآكل اللاحق شيئاً يأكله، أو يعطيه للذي وراءه ممن ينتظرون الطورة التالية على المنسف. ولذا يُقال: «اقعد وراه وانشد خاله». فمن كان خاله ردياً لا يتذكّر صحبه ممن ينتظرون في الطورة التالية. وثلثا شخصية الرجل، عند الأرادنة والعرب بعامة، تعود، سلباً أو إيجاباً، للخال.
ويؤكَل المنسف باليد بأصابع ثلاثة، وفي وضع انتصاب القامة، ومن دون لشّ (كثرة الأكل). وذلك، حفاظاً على كرامة المنسف الذي يتمتع بمعنى ميثولوجي مضمَر، وكذلك حفاظاً على جودته ونظافته وكثرته، حيث يُؤكَل المنسف على طورات متتالية من الآكلين.
وعلى الضيف ألا تصيب أصابعه في الغموس، الآدام، ولا تغمّس اللقمة كلها في الآدام، بل طرفها فقط. ولذلك، يقول قانون الضيافة إن نقص الخبز عار على المعزّب، بينما نقص الغماس عار على الضيف. ومن معايب الضيوف والآكلين، الَّلهْمَطَة (السرعة وعدم التركيز) والفغم (للخضار محدثاً صوتاً ومشهداً منفراً) واللغّ (للبن بسرعة ولهوجة) والفنش (التغميس بلا أدب) واللشوطة (التعجل على الأكل الحار) والنفخ في الحليب واللش (كثرة الأكل). ومسح اليد بطرف الصحن، وإعادة اللقمة أو بعضها بعد أخذها.
ومن حقوق الضيف، المبيت، إلا إذا كان رجل البيت غائباً. فللضيف على المرأة حقوق الإكرام والطعام، القهوة والذبيحة والمنسف، دون حق المبيت. وفي قراءة للتراث الشفوي، نلمس الاحتجاج على الملقّحين (لقّح: قدّم طعاماً كثيراً)، فيقول الشاعر:
العفو! كيف القمح ما يقري الضيفْ
التمر من فوقيه سمن الأشاوي؟
والقمح كناية عن الخبز وقد صنع منه المعزّب فتيتاً ووضع فوقه تمراً وسمناً.
ويفتح هذا الاحتجاج الباب أمامنا لكي نقرأ بعض ملامح التفاوت الاجتماعي والرد عليه بالصبر والزهد. يقول الشاعر:
كوني صبورة على البلا يا أمّ غانم
أوْ لا تحسبي كلّ الزمان إبخوتْ
فينا مَن ينام على جردٍ على الوطا
أوْ فينا مَن ينام فوق إتخوتْ
فينا مَن يشرب حليبٍ ورايبْ
أوْ فينا ما يروى لبن مكحوتْ
وفينا مَن يعيش بالرغد والهنا
أوْ فينا مَن يعيشْ كوت بكوتْ
وسنلاحظ أن الرغد، عند الأرادنة، يتمثل في النوم على سرير وشرب اللبن الرايب، بينما الفقير هو من ينام على الوطا ويشرب اللبن المكحوت، أي المنزوع الدسم، بعد خضّه واستخراج الزبد منه لصنع السمن وبيعه.
ويدفع الفقر إلى الزهد، فيقول الشاعر:
أشرف المأكول العيشْ
وإنْ كان يابسْ بلّه
وأحسن الملبوس الخيشْ
لويش هذا كلّه؟
أوجد المجتمع التقليدي، حلولاً مقوننة فعالة لمساعدة الفقراء بشرف في إطار سياق إنتاجي، من خلال منظومة الهبة المسترجعة. وهي، في الحلال، على نموذجين: العدولة (جمعها: عدايل). وهي الشاة أو عدد من الشياه تودَع لدى فقير مؤتمن فيستفيد من لبنها وسمنها وصوفها أو شعرها ومواليدها من الذكور، بينما يضم الإناث منها إلى العدولة الأصلية التي تظل ملكاً لصاحبها الواهب. ثم، هناك، المنوحة (وجمعها: منايح). وهي شاة أو ناقة يسمح صاحبها لمحتاج بأن يرعاها ويستفيد من لبنها.
ومن عادات مساعدة الفقراء، الجورعة. وهي ترك قسم من الزروع بلا حصاد للمحتاجين، يحصدونها ويدرسونها ويطحنونها لخبزهم.
وفي أشهر الربيع، تعتمد العائلات اعتماداً كبيراً على ما تمنحه لها الطبيعة من نباتات، أصبح تمييزها وإعدادها فنّاً متوارثاً. وبعضها يؤكَل نيئاً، أو تعد منه السلطات أو يُمزَج باللبن المقطوع، لكن معظمها يُحاس بالزيت أو السمن مع البصل، كالفطر والكما والعكّوب والخبيزة.
ومن الطبيعة، أيضاً، يحصل البدو ـ الفلاحون على غذاء إضافي، وأحياناً أساسي، يتمثل في الطرائد من غزلان وأرانب، والطيور كالشنير والحباري والقطا والحمام البري والدرج الخ. ويأكل الصيادون لحوم طرائدهم شيّاً أو تحاس لحومها في البيت مع السمن والبصل.
وقد كان الصيد في المجتمع التقليدي، رؤوفاً بالبيئة، ولا يؤدي إلى انقراض الأنواع، لسببين أولهما أنه يتمّ غالباً للحاجة لا للتسلية، وثانيهما أن وسائله لم تكن فتّاكة كما هي الحال اليوم مع البنادق الحديثة ونزعة الكسب.
وأختم بدلالات النار وقهوة البن في تقاليد الضيافة. فالنار تُشَب إعلاناً من المعزّب المستعدّ لاستقبال الضيوف. وهي عنوان عزّ. ولذلك، قيل في الذمّ «يا طافي الضو، يا ميّت النار»، والنار ترتبط بقهوة البنّ التي يتعاطاها الرجال في مجالسهم معنىً ومتعة. ففي المعنى هنالك إجابة الطلب وتقدير المقامات، وفي المتعة، لذّة المذاق واعتدال المزاج.
ننتهي من هذه المقدمة مع رائحة البن والهيل على أنغام الربابة:
يا عاملين البنّ وسط التراميسْ
لا تقطعونه من حشا مرضعاتُهْ
ردّوه لامّات الخشوم المقاييسْ
صفر الدلال اللي عليها حلاتُهْ
وحلاته، هنا، روعته. فتحلية القهوة العربية لا تجوز حكماً، بينما يمنحها الهيل مذاقاً حامضاً وحلواً معاً.

Posted in Uncategorized.