في نقد النخبة المريضة : أشباه المثقفين ..

في دراسته اللامعة عن ‘مثقف منظمة التحرير الفلسطينية’، رسم الروائي والمفكر الأردني الراحل غالب هلسا، الكثير من ملامح وظلال ‘أشباه المثقفين’ الذين شكلوا العمود الفقري للكادرات السياسية الفلسطينية، وقادوا حركتهم نحو ‘النهاية الحزينة’ المعروفة . على ‘ شبه المثقف’ الذي انتجته على نطاق واسع ظروف التفرغ المموّل غير المنتج في صفوف المنظمات الفلسطينية ، أصبح ظاهرة عربية . وقد انتقل هذا الفايروس المعدي ، أيضا، إلى صفوف النخبة الأردنية التي أضافت ، بدورها، أسوأ صفاتها إلى الظاهرة. شبه المثقف ليس وصفا في نزع المهارة ، مع أن شبه المثقف يكون ، على على الأرجح، غير ماهر أيضا، ولكنه وصف في نزع المرجعية المبدئية والتفاعل الإبداعي بين الذات والمجتمع . في الحالة الأردنية، حيث توجد دولة يتطلب تسييرها مهارات غير إعلامية كما في الحالة الفلسطينية، قد يكون شبه المثقف ، على العموم، ‘مثقفا’ من الناحية التقنية ، لكنه يفتقر إلى القدرة الابداعية ، سواء أعلى مستوى الفن ـ بكل تجلياته ـ أم على مستوى الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية.
ومردّ ذلك هو افتقاره إلى الموهبة أو إلى ما يعوّض الموهبة من الرؤى الشمولية والإلتزام بقضية عامة تتجاوز الذات ، التزاما يتمحور عليها كل النشاط الشخصي . فالثقافة ، في الأخير، هي رؤية إلى العالم والتزام نقدي بأولويات المجتمع والإنسانية وكدح دءوب في معاناة الكلمة /الفعل. المثقف ، بالنظر إلى امتلاكه الرؤيا ، والتزامه بها، فإنه يصبح قادرا على فرض حضوره بمعزل عن السلطة أو حتى على الضد من السلطة. وهي فكرة يجدها المثقف الأردني التقليدي غير معقولة في عجزه عن استبصار المجالات المتعددة للسلطة غير السلطوية ، كالهيمنة الفكرية والمعنوية بالمفهوم الغرامشي . فالمثقف ، باتحاده مع وعيه الكوني، يتحوّل هو نفسه إلى سلطة كائنة مستقلة لها مساحة هي مساحة القول / الفعل، أي الكلمة بوصفها كشفا عن اللحظة المطابقة للاحتياجات الاجتماعية التاريخية قادرة على صنع تأثيرها على جمهور يسير في سيرورة بناء الثقة مع صاحب القول.

وسيكون من شروط حيازة هذه السلطة ، التعفف عن كل سلطة أخرى ، أو ممارستها عند الضرورة، بوسائل هي على النقيض من طابعها السلطوي. شبه المثقف عاجز عن الحضور إلا بالعلاقة مع سلطة ما خارجه هي التي تُحضره في نطاقها ، فإذا عافته انتهى حضوره. وتبدأ هذه السلطة التي يتكئ عليها شبه المثقف ، أولا، هي سلطة المعلم ، حيث الطلبة مضطرون للإصغاء، تحت تهديد الامتحان. وهي على العكس من سلطة المحاضر العام الذي يمارس سلطته بحضوره الشخصي لا بقدرته على منح علامة النجاح. ومن نمط السلطات نفسها سلطة خطيب الجمعة أو واعظ الكنيسة ، حيث يكون الكلام جزءا من الطقس محمولا على الصلاة لا على مضمون الخطبة وشخصية الخطيب. لكن شهوة شبه المثقف الدائمة هي للتقرب من السلطة السياسية والانمحاء بها وخدمتها . وهو ما يشطب جوهر الممارسة الثقافية ، ويحول أشباه المثقفين إلى أدوات على درجات أو طبقات بين أولئك الذين ينخرطون في خيانة ذواتهم لقاء بضعة مكاسب تافهة وبين أولئك الذين يحصلون على المواقع أو المناصب العليا.

في المنصب ، سواء أجاءه بالتعيين أم بالانتخاب ، يتحول شبه المثقف إلى دكتاتور من نمط قاراقوشيّ ، يتلذذ بالسلطة ، ويتوهم الإنشغال، ويتوقف عن الإصغاء ، ويتنكر للأصدقاء، ويغرق في التفاصيل والمظاهر، ويعجز ، كما هي طبيعته، عن الحوار أو عن تصوّر حلول ابداعية شمولية للمشاكل، ويواظب على إصدار الفرامانات الفوقية ، ويمحور كل اهتمامه ووقته حول مهمة وحيدة هي إرضاء نوازعه الذاتية بما فيه شهوة الحضور تحت الأضواء ، وإرضاء السلطات ، ومنها سلطة بطانته في إدارته ـ فمن دونهم يتوه أو يقتله التوحد ـ يحدوه ، دائما ، هوس الانتقام من المثقفين والموهوبين، بينما يكف، نهائيا، عن أي توسل للرأي الآخر أو الميل إلى التوافق مع المجتمع .

هذه ، بالطبع، ليست دعوة إلى العدمية إزاء انتزاع مواقع في إدارة المجتمع. بالعكس. ولكنها نزوع إلى شرطين لا بد من تحققهما لتلافي سقوط المثقف ، هما (1) المشاركة من موقع حزبي جماعي لا موقع فردي (2) الحفاظ أثناء المشاركة في الإدارة على الالتزام بالمبادئ والبرنامج والحساسية الضميرية إزاء الفئات الاجتماعية التي انتدب المثقف نفسه لتمثيلها. يكتفي شبه المثقف بما كان قرأه في صباه ، ثم يتحوّل ، كليا، إلى الثقافة السماعية ، ُنتَفا يأخذها من هنا وهناك ، ويستخدم الدارج منها في لعبة القول الفارغ والعناد الأبله، معتقدا بأن أية تضحية سبق وأن قدمها في زمان غابر، تمنحه صك غفران نهائي عن كل الموبقات والتنازلات والصمت الذليل الذي يخضع له . أنه يبحث عن الإعتراف به ، لا من جمهوره المفترض، ولكن من السلطة المعنية ، ويداري كسله الممل بافتعال معارك مع الموهبين. أشباه المثقفين ظاهرة ولدت مع التعليم الجامعي ، وتوسعت بتوسعه .

فقد أصبح لدى شبه المثقف ، شهادة رسمية على أنه ‘ مثقف’ .وإذا كان حظه جيدا وخربش كلمتين أو اتخذ موقفا في أول العمر، فإنه ينتهي إلى الإحساس بأنه شخصية مهمة للغاية. وهو إحساس يملاء شبه المثقف فعلا ، فلا تشغله القضايا والأفكار الجديدة أو الدور الاجتماعي ـ السياسي المطروح على جدول أعمال المجتمع. أشباه المثقفين منتشرون في حياتنا . وهم موجودون في حقل الإدارة الحكومية والنقابات والحياة السياسية والثقافية ، في الموالاة والمعارضة ، لدى الوطنيين الوسطيين وانصار الحكومات المتعاقبة ، كما لدى الإسلاميين والقوميين واليساريين . وعلى خلفية مكونة من هؤلاء يمتنع النقاش، وندخل في باب الأمراض النفسية حيث يتركز القول والفعل على ذات متضخمة لا يمكنها ، حكما، التفكير العميق أو رؤية الواقع أو التفاعل مع الآخرين. ومن هؤلاء ، يأتي أسوأ المسئولين وأسوأ المعارضين وأسوأ القادة النقابيين وأسوأ النواب والقادة الحزبيين . ولا بد أن السلطات ، كما الجماهير، تفضل شبه المثقف المستعد للخنوع للرأي العام أو تكرار المواقف المعروفة ، على أولائك المثقفين المتماسكين أصحاب الرأي المستقل ، والرؤى السياسية الجديدة. أشباه المثقفين لا يشكلون نخبة وطنية قادرة على إعادة تعريف ذاتها ووطنها وتحديد مرحلة الصراع في الشروط الملموسة زمكانيا. ويتضح ذلك العجز، جليا، في إحجام النخب ‘البورجوازية’ عن تمويل النشاطات المدنية.

وهو ما يدفع الهيئات والناشطين إلى تسوّل المساعدات الأجنبية أو الحكومية المشروطة.وهكذا ، تنعدم حيوية العمل العام باعتبارها مشاركة مدنية تعبر عن استقلال المجتمع ، وتطلعه إلى الحرية والازدهار الروحي والثقافي. البورجوازي الأردني ليس بورجوازيا بالمعنى الثقافي. أنه مجرد فلاح بخيل أو بدوي فردي أو كلاهما معا ، وليست لديه القدرة النفسية على التخلي عن جزء ـ ولو ضئيل ـ من ثروته أو دخله من أجل العمل العام. اطلبْ من أحدهم تبرعا حزبيا أو اجتماعيا ، وسوف يتهرب أو يمنحك القليل ، لكنه مستعد لأن يولم لمناسبة سياسية أو اجتماعية ما يكلفه الكثير . وهذا ليس كرما . إنه استثمار مأمول في مكسب أو وجاهة. وسوف تتذابح مع أردني كريم على دفع فاتورة المطعم ، لكنه غير مستعد للتبرع بالمبلغ نفسه للخط السياسي الذي يؤيده أو النشاط الذي يعتقد بأنه مهم للمجتمع. فالكرم في تسديد فاتورة المطعم هي أمر يعود إلى شأن خاص ، لكن التبرع العام شيء غير مفهوم بالنسبة إلى تكوينه الثقافي. وهو يعتقد أن تأييده اللفظي لنهج سياسي هو ، بحد ذاته، تبرع ثمين . أما الأغلبية ، فهي تريد لقاء ذلك الموقف اللفظي مكافآت .

انعدام القدرة النفسية الثقافية على التبرع بالمال لغايات سياسية أو مدنية ، سوف يتسع ، إذن، بحيث يشمل انعدام القدرة تلك على التطوّع بالوقت أو بالجهد أو تقديم أية تضحيات من أجل التقدم . لدينا، مثل كل المجتمعات العربية المسلمة ، نزوع إلى العمل الخيري تحت تأثير الوازع الديني وضغطه ، خصوصا في مناسبات الاتراح الشخصية أو في المناسبات والأعياد الدينية . وقد أفاد الإسلام السياسي من هذا النزوع للتوسط بين الخيّرين والمحتاجين ، والحصول على مكاسب سياسية، وفي الوقت نفسه ، تمويل نشاطاته ومنظماته .

لكن تقاليد التبرع للعمل العام هي شيء آخر غير العمل الخيري. وهي لا تستهدف إرضاء الضمير الديني ـ الذي هو في النهاية، ضمير شخصي ـ ولكنها تنبع من الضمير الاجتماعي ـ السياسي. لم يكن الوضع كذلك دائما . ففي الخمسينيات ، ظهرت نخب طليعية تضع مصلحة المجتمع فوق كل اعتبار شخصي، فكان المناضلون اليساريون والقوميون ، يدفعون لأحزابهم إشتراكات من دخولهم القليلة . وهو أبسط ما يقدمونه بعد قضاء وقت الراحة بعد عمل مضن في النشاط الحزبي، وبذل الجهد بعد الجهد ، والتعرض لمخاطر السجن وحتى الموت .

النظام الناصري هو الذي أدخل تقاليد النضال المموّل إلى العالم العربي ، ثم جاءت التجربة الفلسطينية لتجعل المال جزءا لا يتجزأ من العمل السياسي لالآف المتفرغين والأنصار والأصدقاء والكتاب والأدباء والإعلاميين. وبطبيعة الحال انتشر هذا التقليد على نطاق واسع في الأنظمة التقدمية والرجعية معا .

يحتاج بلدنا ومجتمعنا إلى الكثير من العمل العام والتقدمات والتضحيات من كل أبنائه. وهذه ليست قضية أخلاقية ، بل هي قضية التقدم نفسها، وهي قضية التحرر والحرية والمشاركة . فالمُعال والمتكسب والبخيل والفردي ، لا يمكنه أن يكون حرا ومشاركا في القرار، والبلد لا ينهض من دون تضحيات اجتماعية متضامنة و غزيرة ومثابرة

Posted in Uncategorized.