ناهض حتّر
طفرت من عينيّ دمعتان.. وأنا أشاهد فيديل كاسترو في غرفته في المستشفى، شيخاً عليلاً، شاحب الوجه، ضعيفاً موَّاتاً…
أهذا هو فيديل؟
اللعنة على الطبيعة التي لا ترحم الفرسان، وتفرض قوانينها حتى على أولئك الذين يصعدون صهوة قوانين التاريخ..
بل.. واللعنة على مقتضيات السياسة اليومية التي تضطر النظام الكوبي الى تصوير الزعيم التاريخي لثورات العالم الثالث، وعرضه على الشاشات، وهو في ثياب المرض وهيئة الشيخوخة معاً، تأكيداً على أن «الرئيس يدير الدولة من مشفاه».
لماذا امتد العمر بفيديل الى أرذله؟! لماذا لم يمت – مثل رفيقه تشي غيفارا – برصاص الأعداء، شاباً نضراً تشعّ من عينيه أحلام الثورة العالمية، وتجسد هالته، جبروت الشعوب الثائرة؟ لماذا لم يمت فيديل – البطل، وهو يقاوم غزوة «السي آي ايه» الفاشلة في خليج الخنازير؟ لماذا نجا من كل محاولات الاغتيال التي دبرها العم سام ضد الرجل الذي ألهم امريكا اللاتينية، الكرامة والأمل والبرامج اليسارية من أجل الحرية والتنمية والعدالة؟.
مسحتُ دمعتيّ، وقابلت المرآة لكي أرى وجهي: أهذا هو وجه الفتي الذي عانق الشمس الاستوائية في ها انا عام 78 – وتحت المطر العنيف – اربع ساعات متواصلة، يزاحم الجموع لكي يشهد الرجل – الاسطورة، ويتابع خطبته، ويفهمها بقلبه – فهو لا يعرف الاسبانية ولم يتعلم منها سوى ي ا فيديل!
فجيعة مشهد فيديل الشيخ الذاهب – بسلام – الى مصيره الطبيعي المحتوم، علقت في فمي، فلم استطع استعيد الهتاف، بل وجدتني: أردد: خالد.. بن الوليد! تعرفون، بالطبع، ان سيف الله المسلول، المقاتل الذي لا يلين، المقتحم، بطل معركة اليرموك، مات، هكذا بلا اكليل الغار المضرج بالدماء الزكية.
في احتضاره توجع خالد على موت لا يليق بقائد: «ليس في جسمي موضع إلا وفيه ضربة من سيف، أو طعنة من رمح.. وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير» البعير لا يموت على الفراش، وما قصده ابن الوليد – في موته المأساوي – هو التمييز بين الفارس الذي يمسك بأعنّة التاريخ، والقاعد الذي يخضع للتاريخ وللطبيعة معاً.. فكأنه بعير!
* * *
خالد.. العربي المسلم، صقر الثورة المحمدية في القرن السابع، وفيديل.. الكوبي الشيوعي، صقر الثورة الوطنية التحررية في القرن العشرين… كلاهما منح نفسه كاملاً للعواصف، فلم تعطهما الثورات مجد الموت في الميدان. انها تراجيديا مركّبة لقائدين لم يتراجعا.. ولم يترجلا.. ولكنهما وقعا أسيري «الدولة» وانتهيا الى حتمية الطبيعة!
* * *
غيفارا – مثل المسيح – استعصى على القَبول والاندراج في سلم «الدولة».. وقضى في عناق حميم مع التاريخ، مقاتلاً في الميدان.. وعاش – رغم أنف الطبيعة – ممجداً، في رمزية كونية خالدة.
* * *
ولكن – فيديل – لا ترحل الان! نريدك!! التاريخ يريدك بضع سنوات أخرى، حتى تستكمل امريكا اللاتينية الانقلاب الشامل نحو اليسار..
كل يوم جديد في حياتك، حياة جديدة للثورة العالمية، وزهرة جديدة للمستقبل.. وصفعة لجيرانك المجرمين في البيت الأبيض!
ي ا فيديل!.