ناهض حتّر
“الميديا” – كما هو معروف – تصنع النجوم في سماء الفن، وفي السياسة والرياضة والبزنس .. وكذلك، في مجال الفكر ايضاً. ودعونا نتذكر كيف حولت الميديا. كاتباً من الدرجة الثالثة، مثل فرانسيس فوكوياما، الى فيلسوف ما بعد الحرب الباردة- فيلسوف العصر! – بناءً على مقالته الخفيفة عن «نهاية التاريخ».
وفي «نهاية التاريخ»، مطلع التسعينيات، كان فوكوياما، يتوهم، بناءً على انهيار الاتحاد السوفييتي، ان الصراعات الاجتماعية – السياسية، قد زالت الى الابد، وأن الرأسمالية الليبرالية قد انتصرت نهائىاً. وهو يستعير من الهيغلية فكرة التحقق التاريخي للفكرة المطلقة، وبالتالي، نهاية التاريخ – لا في المرحلة الشيوعية مثلما تنبأ ماركس – ولكن في التحقق التاريخي للرأسمالية في اعلى ذراها، رأسمالية الولايات المتحدة المهيمنة على العالم.
وقد عُومل فوكوياما – الامريكي من اصل ياباني – بالكثير من التهليل، وتمت ترجمته الى لغات الارض، لكن، سرعان ما وارته الاحداث، اذ أن نبوءته لم تصمد، وتفككت نظريته في اقل من عقد واحد. فقد كان من سوء طالعه ان العمر الواقعي للامبراطورية الامريكية هو الأقصر بين اعمار الامبراطوريات. فماذا عن العمر الافتراضي لهذه الامبراطورية التي اصطدمت بحائط التاريخ، فترنحت، وتكاد تهوي؟.
يقول فوكوياما – في مقال في «الواشنطن بوست» – «ما ان يلقي المرء نظرة عامة على صورة العالم، اليوم، حتى ينتابه الغم وتثبط همته» والمقصود «بالمرء» هنا، هو ممثل الامبراطورية الامريكية، اي فوكوياما نفسه، الذي يلاحظ التورط الامريكي في العراق، وطموحات ايران، ونهضة روسيا القومية، والاسلحة النووية لدى كوريا الشمالية، وانتشار الحكومات اليسارية في امريكا اللاتينية، «والارهاب»، والاختلالات في الاقتصاد العالمي، وعجز الموازنات، وتراجع ودائع الدولارات في البنوك المركزية الاجنبية .. والارتفاع المهول في أسعار السلع والخدمات والنفط، وغيرها من مظاهر انحلال الرأسمالية الليبرالية وسقوط الهيمنة الامريكية.
غير ان فوكوياما، على الرغم من الغمّ، متفائل «1» بانخفاض أسعار النفط الى الحد الذي يضغط على المتمردين في روسيا وايران وفنزويلا «2» بأن السنة لن يقفوا مكتوفي الايدي امام الصعود الشيعي .. و «على الرغم من ان هذا لا يعفي واشنطن من مسؤوليتها الاخلاقية ازاء نشأة وضع تناحري داخلي – في العراق – الا ان لهذا النزاع، قوى توازنه الذاتية الداخلية، على صعيد المنطقة بأسرها». وما يقترحه فوكوياما هو الانسحاب – الامريكي – لكي تتفاعل العراق والمنطقة – موازين القوى الذاتية للحرب – الحروب – الاهلية التي من شأنها تخفيف الضرر الذي يمكن ان يلحق بالمصالح الحيوية الامريكية!
يريد فوكوياما، باختصار، القاء عبء انقاذ امريكا على العرب السنّة، سواء لجهة خفض أسعار النفط – لإضعاف روسيا وفنزويلا – ام لجهة مجابهة ايران. وفي الحقيقة أن الحرب الاهلية الشيعية – السنية التي يأمل فوكوياما باندلاعها – على مستوى المنطقة- هي أفضل وسيلة لوأد المقاومات وامكانية الثورة العراقية – العربية الشاملة من اجل الحرية والتقدم.
أفيلسوف هذا أم مجرد مجرم يقدم استشاراته اللاأخلاقية للامبراطورية الآفلة؟ وهل هذه الاستشارات – بالأساس – أطروحة فكرية ام تقرير استخباراتي؟
الطريف ان فوكوياما – على الرغم مما رسمه من لوحة قاتمة للتراجع الامريكي على مستوى العالم – وتعلقه بقشة الاقتتال الشيعي – السني لإنقاذ الامبراطورية الامريكية، فانه يقدر فجأة في نهاية مقاله، ان «امريكا ما تزال عملاقاً يمتص الصدمات ويصحح الاخطاء». وهو كلام يندرج في باب الايمان والتعزيم النفسي .. ولا علاقة له بالوقائع التي يعددها فوكوياما نفسه.
أن تكون امريكا «عملاقاً ».. اصبح هذا الآن عبئاً وليس ميزة. فالولايات المتحدة مضطرة للتفاعل مع هيكلة شاملة للحفاظ على وضع تنافسي في الاقتصاد العالمي الذي تشغله – اليوم – نماذج غير امريكية، في مقدمها الانموذج الصيني.
«العملاق» الامريكي مهلهل، غارق في العجز المالي والهدر، ومضطر للاعتماد على صناعة الحرب، لكن الحرب قادته الى وحول العراق.
«العملاق» بلا صدقية – ايديولوجياً – يحصد كراهية واحتقار العالم كله، ويواجه «صدمات» لا يمكن استيعابها، لأنها ليست عارضة، بل تاريخية، اي انها تتعلق بحركات الشعوب والامم وتغييرات الاقتصاد العالمي، وانفجارات الوعي الاجتماعي، وانبثاق الوطنيات والثقافات والرؤى الكونية من رحم التاريخ …
أما بالنسبة الى «تصحيح الأخطاء».. فيكفي ان نتذكر ان رئيس الولايات المتحدة – هو جورج بوش الصغير!.