فوضى حتى انعدام الوزن

في الأسبوعين الأخيرين، وصلت الفوضى الأردنية إلى حالة انعدام الوزن؛ ودليلنا على ذلك ما حدث من أزمة مفاجئة غير متوقعة في العلاقات الأردنية ـ العراقية.
وبطبيعة الحال، فإن هذه العلاقات المهمة استراتيجيا بالنسبة للبلدين الشقيقين، هي قضية بحدّ ذاتها، ولا أريد، هنا، التوقف عندها، إنما أردت أن أحلل، تاليا، الحدث نفسه كنموذج على حالة انعدام الوزن؛ ففي النهاية، يمكننا القول إن مجموعة صغيرة ومعزولة من المتحزبين المتضامنين، تمكنت، بوسائل بسيطة، من تسميم الحياة العامة في البلاد، والإضرار البليغ بالمصالح الوطنية.

كل ما كلّف تلك المجموعة لإحداث ذلك، هو القيام بالتطفّل على نشاط للسفارة العراقية، واستفزاز الحاضرين، مما أدى إلى اعتداء حرس السفارة على المتطفلين. حتى هذه اللحظة، لم يكن الأمر خطيرا؛ كان يكفي الحصول على اعتذار دبلوماسي، وسحب المعتدين، والتحقيق مع المتطفلين حول دوافعهم، والتنبيه عليهم بعدم تكرار فعلتهم.

غير أن ما حدث لاحقا تخطى كل حدود العقلانية الثقافية والاجتماعية والسياسية؛ فلقد جرى استخدام الواقعة لاستثارة مشاعر كاركاتيرية بالكرامة الوطنية. وهي كاريكاتيرية لأنها مضخمة وفي غير مكانها أو زمانها، كما أنها تتوجه إلى العنوان الخطأ. ثم تحوّل المشهد إلى اعتصامات عدائية أمام السفارة العراقية و اعتداءات على مقيمين عراقيين، وحالة من السُّعار.

أوضحت هذه التطورات ما يلي:
أولا، أن الحالة الجماهيرية في البلاد هي في وضع انفعالي شديد يؤدي إلى غياب الوعي السياسي، ويسمح بالتلاعب بالوجدان العام،
ثانيا، أن الحياة السياسية الأردنية، تفتقر اليوم إلى الأطر التنظيمية و الفكرية والبرامجية، الوطنية والعقلانية والمؤسسة على ادراك المصالح العليا للمجتمع والدولة،
ثالثا، أن الاحتقان الاقتصادي الاجتماعي قد بلغ مداه، وأنه قابل للانفجار في أسوأ الصور الممكنة، فعلى رغم من أن قسما من المنفعلين قالوها صراحة، فإن همروجة الكرامة الوطنية ضد العراق ( وليس ضد إسرائيل) انما هي غطاء للموجة الطائفية التي تجتاح المنطقة، ويبدو أن الأردن ليس بعيدا،
رابعا، أن الإدارة الحكومية وأجهزة الدولة ككل ليس لديها القدرة الكافية على التوقع والمتابعة والمعالجة السريعة للتطورات، وسط اضطراب ملحوظ بين الأجنحة المختلفة،
خامسا، أن الاعلام الألكتروني ـ باستثناءات محدودة ـ تحوّل، بالفعل، إلى مجال لتخريب الوعي العام، وتحويل حرية تداول المعلومات إلى حرية النميمة والشتائم وفبركة الاخبار وكتابات لأشخاص لا يتمتعون بالحد الأدنى من الأدوات المهنية أو الملاءة الثقافية والسياسية. وقد لعبت المواقع الإخبارية، في الأزمة موضع الحديث، دور المهيّج للجمهور و حتى المحرّض على الأفعال العدائية، بما يتنافى مع أي إطار قانوني ديموقراطي؛ فقد فتحت عدة مواقع مزادا لتقديم المكافآت المالية لمن يقوم بأفعال جرمية ضد السفير العراقي ومعاونيه وحرسه! ولم تجر مساءلة تلك المواقع، ولا ممولي العنف المتباهين بتحدي القانون،
سادسا، وقد انتقلت كل هذه الظواهر إلى مجلس النواب الذي يفتقر العديد من أعضائه إلى الحس بالمسؤولية السياسية.

إن الاعتصام والتظاهر والنشر الحر للملفات والآراء، هي حقوق أساسية لا يمكن التراجع عنها، إنما آن الأوان لإدارة هذه الفوضى تحت سقف القانون، ولكن بأكثر ما يكون من الحزم والفاعلية. وليس ذلك، بطبيعة الحال، سوى علاج موضعي، بينما يكمن الحل في تحقيق المطالب الثلاثة للحركة الوطنية: تعريف الهوية قانونيا وسياسيا، التراجع عن النهج النيوليبرالي وضرب الفساد، والشروع في تنفيذ خطة تنموية جدية في المحافظات، بعقول وسواعد أبنائها.
(العرب اليوم)

Posted in Uncategorized.