فلسطين ديمقراطية ثنائية القومية (2-2)

العرب اليوم

ناهض حتّر
لقد بينا، بالامس، ان شعار الدولة الفلسطينية المستقلة هو شعار زائف، ليس فقط لأسباب عملية او بالنظر الى اختلال موازين القوى لصالح اسرائيل المترسخة في اليمين: ولكن، بالاساس، لأن تحقيق ذلك الشعار -في احسن الشروط -لا يشكل حلاً تاريخياً للمسألة الفلسطينية. والى ذلك، فهو لا يشكل حلاً للصراع العربي-الاسرائيلي الذي يتعدى المستوى الفلسطيني، الى مستويات اخرى، منها (1) ان اسرائيل اليهودية هي كيان عنصري معادٍ للعرب، ووكيل للاستعمار في المنطقة. (2) وهي تحتل اراضي عربية (في سورية ولبنان) وتهدد مصر، وتفرض شروطها فيما يتصل بقضايا المياه والتنمية الاقليمية في المنطقة. (3) وهي تهدد الشرق الاوسط كله بأسلحة الدمار الشامل، وتعرقل الاستقرار وتتحدى الامن القومي للبلدان العربية. انها كيان غريب عدواني استعماري لا يمكن التعايش معه على المدى البعيد، ويشكل نموذجاً للتعصب والانقسام الطائفي الاثني في المنطقة.
وتشكل اسرائيل طعنة عميقة للنظام العربي، تهدده بالحرب، وتعرقل تقدمه في «السلام»، وتمنعه من اكتشاف ذاته التقدمية، ومن التنوير، وترسخ وتعزز الاتجاهات المتعصبة والسلفية في ارجائه، ردا ًعلى تعصب سلفي معادٍ ومسلح حتى الاسنان.
ولذلك كله فإن تفكيك الكيان الصهيوني، هو مهمة تاريخية تواجه العالم العربي، ولا مفر له من تحقيقها. ومن الواضح ان موازين القوى العسكرية لا تسمح بتحقيق هذا الهدف التاريخي الضروري.
كذلك، فإن الانطلاق من قاعدة عروبة فلسطين واسلاميتها، يعود بنا القهقرى الى سياق قوموي او طائفي للصراع، يفوت على العرب خوض معركة تحرير لها طابع اممي، وقادر، بالتالي، على كسر التفوق العسكري الاسرائيلي، والاهم انه يعزز صلابة تماسك الاسرائيليين وراء النخبة الصهيونية واستراتيجيتها العدوانية الاستعمارية العنصرية.
وحتى من دون هذا التحليل المستند الى تشابكات موازين القوى، فإن الحل التاريخي ينبغي ان يكون حلاً مبدئياً يقوم على قيم العدل والمساواة والاخاء والديمقراطية، وبالتالي، فلا بد للحركة الوطنية الفلسطينية والعربية، من الاعتراف الصريح والمبدئي بحق اليهود بالعيش في فلسطين ديمقراطية ثنائية القومية تنبذ الصهيونية وتفكك اجهزتها الامنية وقواتها المسلحة الضخمة وقواها النووية، وتسمح، سياسياً وواقعياً، للفلسطينيين بالممارسة الطوعية لحق العودة الى ديارهم.
ان فلسطين (بجغرافيتها الكاملة) والمتطورة اقتصادياً والمتمتعة بنظام ديمقراطي، ستمثل واقعياً، نقطة جذب للاجئين الفلسطينيين، الذين لا يمكن تصور عودتهم الى ديارهم من دون وجود شروط اقتصادية وسياسية ملائمة.
وبالمقابل، فإن اللاجئين الفلسطينيين الذين يفضلون، على ذلك، البقاء في البلدان المضيفة -وهي، بالاساس، عربية-سوف تتوفر لهم الشروط السياسية والنفسية للاندماج الطوعي فيها على اساس فردي. ولن يطرح وجودهم، بالتالي، مشكلات سياسية.
وبطبيعة الحال، فإن فلسطين موحدة ديمقراطية ذات قوميتين، لن تستمر في احتلال الاراضي العربية في سورية ولبنان، وستجد حلولاً سلمية وواقعية لمشكلات المياه والتعاون الاقليمي في المنطقة التي ستزول منها الحروب والتوترات واسلحة الدمار الشامل، وكل اشكال التعصب الوطني والديني والاثني.
وهذه الاستراتيجية التي تبدو -للوهلة الاولى -طوباوية، هي الاستراتيجية الواقعية الوحيدة الممكنة لحل «قضية الشرق الاوسط»، وبناء الديمقراطيات واطلاق قوى التنمية في ارجائه، وذلك لأنها استراتيجية تاريخية تعترف بالواقع، وتسعى الى تغييره ديمقراطياً. واهم نقطة في هذه الاستراتيجية انها ستعيد توحيد الشعب الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، في سياق وطني واحد، وفي مشروع وطني واحد يستجيب لمصالح الفلسطينيين في كل اماكن وجودهم، وبغض النظر عن ظروفهم السياسية الراهنة، سواء أكانوا اقلية قومية (في مناطق الـ 48) او تحت الاحتلال في مناطق الـ 67، او لاجئين في المهاجر. فهل تتصورون حجم القوة السياسية والدينامية السياسية للشعب الفلسطيني الموحد وراء استراتيجية تاريخية في كل اماكن وجوده؟! وهل تتصورون حجم الالتفاف الجماهيري النضالي العربي حول هكذا دينامية فلسطينية تنتشل المسألة الفلسطينية مما وصلت اليه في اروقة سلطة حجم ذاتي محلي تتناهشها قوى الاستبداد والفساد… الى وضعها في قلب السياسة الدولية!!
هكذا استراتيجية سوف تحرر القضية الفلسطينية من الخضوع لآليات السياسة الاميركية، وتحولها الى قضية دولية، مثل قضية جنوب افريقيا، تجتذب الدعم السياسي الواسع والمبدئي من شعوب وحكومات العالم.
وهذه، بالطبع، استراتيجية نضالية شاقة، وتحتاج الى جهود جبارة من التحشيد السياسي والشعبي، واستنهاض الهمم والطاقات. وهي تتطلب، بالطبع، تغييراً عميقاً ومبدئياً في اساليب النضال. فمن حيث المبدأ، لا يمكن تبني استراتيجية العيش المشترك لشعبين في دولة واحدة ديمقراطية مع استمرار العمليات الاستشهادية ضد المدنيين اليهود. هذا النوع من العمليات سوف يتوقف بالضرورة، وبدلاً منها سوف يتم تفعيل النضالات الشعبية السلمية المثابرة، ولا سيما العربية -اليهودية المشتركة على قاعدة تفكيك الصهيونية. بل ان هذه الاستراتيجية تستوجب وقف كل اشكال العنف المسلح الا في حدود ضرب الاهداف العسكرية والامنية، وفق الاستهدافات السياسية العيانية.
وتتطلب هذه الاستراتيجية، بالطبع، تجميد اتفاقات السلام الثنائية بين اسرائيل والبلدان العربية، ومقاومة التطبيع مع الحكومات والقوى الصهيونية، وممارسة حصار سياسي ومقاطعة اقتصادية شاملة لاسرائيل، مثلما كان الحال مع جنوب افريقيا العنصرية.
ومقاطعة اسرائيل الصهيونية العنصرية، سوف تصبح، الى ذلك، مطلباً دولياً الى ان يتم تفكيك النظام الصهيوني، واقامة الديمقراطية في فلسطين موحدة، سوف تضع الضمير العالمي امام واجباته.

يا ليت ان القيادة الفلسطينية في وضع يسمح لها التخلي عن امتيازات «السلطة»، لكي تنتقل من التكتيك الى الاستراتيجية… ويا ليتنا، على الاقل، ندخل في حوار جدّي حول البديل التاريخي لمأزق مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.0

Posted in Uncategorized.