فلانتاين… لاستذكار قديس أردني نمر العدوان: في الحب يولد الوطن

العرب اليوم
ناهض حتّر
اليوم 14/2 هو عيد الحب وقد أصبح الاحتفال بهذا العيد تقليداً محلياً بالرغم من ارتباطه برمز أجنبي هو القديس فالانتاين، مما يدل على عالمية الحب. على أنني بهذه المناسبة، أحب أـن أذكر الأردنيين بأنهم يملكون هم أيضاً، قديسهم المكرس للحب العشقي. وهو الفارس الشاعر نمر العدوان. وفيما مضى من الزمان الجميل، كان العشاق والشعراء الأردنيون يقصدون ضريح قديسهم العزيز في «ياجوز» مطلع كل ربيع، للسلام على أمير المحبين.
كان نمر العدوان أميراً وفارساً وشاعراً، وعاشقاً من طراز خاص، يكرسه قديساً للحب، لا لأنه عاش وزوجته الحبيبة (وضحا) قصة حب مرهفة فحسب، ولا لأنه، بعد رحيلها، اعتكف لرثائها فحسب، بل لأنه صنع من حبه لها وتفجعه على غيابها، حساسية إنسانية جديدة في المجتمع الأردني.
و(وضحا) المعشوقة، هي أنموذج للمرأة الأردنية، يروي عنها البدوي الملثم… أنها «إذا رأت الضيف مقبلاً هشت للقائه باسمه، وخفت لاستقباله ببشر وإيناس. وإذا جاءت أمام حفل زاخر بشيوخ العرب، رجعت إلى الوراء خطوات بعد أن تغمرهم بضروب الحفاوة والإكرام بدون أن تبدي لهم ظهرها، وفي أيام المجاعات، كان بيتها مشرعاً بأنواع المآكل لما كانت عليه من الفطنة والاقتصاد والمعرفة، فلما فاضت روحها إلى بارئها، خرج (زوجها) نمر هائماً على وجهه في البراري والقفار، ذارفاً الدمع الهتون عليها، وجلس زمناً طويلاً على قبرها باكيا مستبكياً.»
وتمثل قصيدة نمر العدوان الشهيرة في رثاء (وضحا) واحدة من أجمل قصائد الحب العشقي الصوتي، حيت يمتزج العاشقان، فلا يعرف الخمر من الكأس:
«محبوبي أنا سقاني شهدا صفا ذاب»
«محبوبنا عبدا وسيد وحباب»
فكان الأمير الشاعر، وجد في وفاة زوجته الحبيبة مناسبة درامية للإعلان عن حساسيته كفارس وعاشق، يتبادل «السيادة» في الحب، مع المحبوبة في علاقة شراكة إنسانية بلا حدود.
وهو، بتأكيده أولوية شخصيتها وصفاتها المناقبية على جمالها وصفاتها الحسية، وباعتبارها صديقة وشريكة ورفيقة، وبتقديسه لمشاعر الحب الحميمة، والفخر بهذه المشاعر علناً، كان يجدل ضفيرة من القيم تمجد الرجولة والأنوثة معاً، وترى في اتحادهما بهجة الحياة ومعناها.
ولعله، عند العدوان، صدى لما ضفره شعره من تأكيد على قيم الحرب إلى جانب قيم الحب، والقوة إلى جانب اللين والمودة، والكرم البدوي إلى جانب التعاضد الفلاحي، والصراحة والإباء الى جانب الحياء والتواضع، وهي كلها، وغيرها مما يشبهها، ضفيرة القيم الأردنية المنسوجة من التقاليد البدوية – الفلاحية المتمازجة معاً، والتي ميزت الشخصية الأردنية التي تبلورت في عملية التحول النوعي من البداوة إلى الفلاحة، والتي شهدها الأردن خلال القرون 17، و18، و19، وتميزت، بتداخل عمليتين هما الاستقرار الفلاحي للقبائل البدوية، والحفاظ على التنظيم الاجتماعي البدوي للمستجدات الفلاحية، في إطار نظام شبه مشاعي.
لقد لمع نجم نمر العدوان في الثقافة الشفاهية الأردنية بوصفه مثقفاً (منظماً وناشراً للقيم) عبر شعره، بأكثر مما لمع نجمه بوصفه اميرا فهو، بتعبيره عن القيم الجمعية للأردنيين، لم يعد اميراً او شيخاً لعشيرة العدوان، ولم يعد شاعر القبيلة، بل شاعر وطني شعبي، يجد فيه كل أولئك الذين مست قلوبهم رهافة الحب، من كل القبائل، شاعرهم (أي أن نمر العدوان، بنزوعه إلى القيام بدور المثقف العضوي للتحولات الاجتماعية – الاقتصادية الوطنية، استطاع أن يكسر نطاق القبيلة، وأن يغدو شاعر الأردن، لا شاعر (العدوان) وإمارة نمر وانتماؤه لقبيلة قوية ذات سيادة وفروسيته المشهورة، لم تلعب دورا ًقبلياً، بل ساهمت في تكثيف الرمز الثقافي القيمي الجمعي الذي كان نمر الذي فرضت قصائده نفسها على جميع أبناء العشائر الأردنية، فتغنوا بها، وتغنوا بصاحبها، كاسرين بدورهم قيودهم القبلية، إلى وحدة الانتماء الثقافي الأردني. إن نمر العدوان هو أول علامة بارزة على نهوض الأردنيين من مرحلة القبائل والمناطق إلى مرحلة الشعب والوطن. وهو، إلى ذلك، استطاع أن يصل إلى أكثر مما أراد، في تصوير الأبعاد الإنسانية والعاطفية للعلاقة بين الرجل والمرأة، فوضع يده على سر هذه العلاقة التي يتناوب فيها الرجل والمرأة، «السيادة» ليصنعا معاً جدل الحب والشراكة الإنسانية.
ويلمح القارئ الفطن في شعر نمر العدوان، نزوع الشاعر إلى الانفتاح على المدى الشامي، وميله إلى الخروج من العزلة العشائرية -المناطقية باتجاه المراكز الحضرية في سوريا وفلسطين، وهو ما يعبر عن نزوع الوطنية الأردنية التقليدي إلى تأكيد العلاقة مع هذه المراكز، واكتشاف الذات الوطنية في إطار اكتشاف الذات القومية.
لقد تعرفت إلى شعر نمر العدوان، أول مرة، شفاهة. فقد كان الجيل الفائت يردد هذا الشعر، في ليالي الشتاء أمام مواقد النار، وفي ليالي السمر الصيفية، وأحسب أن الأردنيين، قبل الطفرة النفطية والتأمرك الثقافي والانحطاط القيمي وغير ذلك مما عشناه من مآس منذ أواسط السبعينات، كانوا يحفظون مقطوعات عديدة من شعر نمر العدوان، ويترنمون بها، وبخاصة قصيدته الذائعة الصيت «البارحة يا عقاب» وقد صنع العلامة ركس بن زايد العزيزي مسلسلاً تلفزيونياً جيداً عن نمر العدوان، إلا انه ضاع وضاع تأثيره في زحمة المسلسلات البدوية الهابطة الذوق والفقيرة المضمون.
وأذكر، عندما تبلور خط الوطنية الأردنية، أول ما تبلور، في صفوف اتحاد الشباب الديمقراطي الأردني، في نهاية السبعينات، أن صديقنا ورفيقنا في الاتحاد، عقاب الرواحنة، قد استعاد بصورة عفوية، أشعار نمر العدوان، وأخذ يترنم على الربابة بمقطوعات منها، وإنني أستعيد هذه الذكرى الطيبة الآن، وأظن أن استذكارنا نمر العدوان، في إطار نشاطنا لبلورة الخط الوطني الأردني، لم يكن مجرد مصادفة، فنمر العدوان هو أول رموز الوطنية الأردنية، وفي الإيقاع العميق لقصة حبه وشعره، يكتشف الأردني رعشة الانتماء لهذه الأرض التي على ثراها تشكلت وحدة المشاعر والقيم لشعب عربي أصيل، ما يزال، بالرغم من كل أشكال الطمس الثقافي والتهميش الاقتصادي والسياسي، قادراً على معاودة اكتشاف ذاته، ومعاودة الأمل بحياة أكثر تقدماً وبهاءً، أعني حياة تستحق أن تعاش حتى آخر قطرة في حميمية العلاقات الإنسانية والعاطفية الحرة في مجتمع تقدمي وديمقراطي.0

Posted in Uncategorized.