ناهض حتّر
آخر فضائح «إعادة الاعمار» الامريكي للعراق، برنامج رسمي لنشر اعلانات مدفوعة الاجر، على هيئة مقالات واخبار وتقارير صحافية تمتدح المحتلين، في وسائل الاعلام العراقية «الحرة»، وموقعة باقلام صحافيين عراقيين.
كان الاعلام العراقي، في ظل صدام حسين، شموليا ومتخشبا ويعبّر عن رأي واحد هو رأي السلطة. وكان ذلك معروفا ومكشوفا، ويمكنك ان تقبل به او تتجاهله.. ولكنه لا يخدعك. لكن «حرية» الصحافة، التي جاء بها الاحتلال الامريكي، تقوم على الخديعة: صحف ومحطات تلفزيونية واذاعية عديدة، مختلفة الاسلوب والهيئة، لكنها – في أغلبها- تنوع على المعزوفة الاستعمارية نفسها. وهذا ليس خافيا على المراقب.
الجديد هو ان التسريبات الامريكية، حولت شبهات التمويل الى ادانة صريحة.
ولا يقتصر برنامج التمويل على العراق وحده. فقد شهدت السنوات الاولى من الالفية الثالثة، خطة موسعة للترويج الاعلامي للامبراطورية الامريكية تحت شعارات ليبرالية. وشملت هذه الخطة، تمويل انشاء مؤسسات صحافية واعلامية، سرا وعلانية، وكذلك، التمويل بالقطعة والتمويل الشخصي، بالاضافة الى البرامج العلنية الخاصة بتنظيم زيارات ودورات للصحافيين والاعلاميين العرب في الولايات المتحدة.
وقد اسفر هذا النشاط، المتعدد الاوجه، العلني والسري، عن نشوء ظاهرة التأييد الصريح للاستعمار في الصحافة والثقافة العربية، وكذلك: العداء المنهجي لحركة التحرر الوطني العربية، وقيمها واهدافها وانظمتها ورموزها. ولا نعني ان هذه «الحركة» هي فوق النقد، بل هي تتطلب المراجعة الشاملة والنقد الجذري، ولكن ذلك شيء، والعداء الهدام فاقد الضمير، شيء آخر لا بد انه ممول بالكامل.
لقد كان احتلال بغداد طعنة ادمت قلوب العرب، وابكت ذوي الضمائر حتى لو كانوا من اعداء صدام حسين، لكن عندما يحتفل كاتب عربي – بسقوط عاصمة الخلافة العباسية تحت بساطير المارينز، تحت عنوان «فتح بغداد». فالارجح اننا بصدد اعلان تجاري. وعندما يتخصص كتّاب عرب في كيل الشتائم للتراث الوطني وقيم المقاومة والاستغلال المضمخة بدماء الشهداء، فربما كان علينا ان نفتش عن الدولارات.
الكتيبة الاعلامية والثقافية الاذكى من العرب التابعين للمارينز، هم المتخصصون بالليبراليات الزائفة، متجاهلين الجرائم الهمجية للمحتلين في العراق وفلسطين، وساخرين، بصفة خاصة، من مفهوم السيادة الوطنية.
***
التمييز الواضح بين الاعلان التجاري وبين المادة الصحافية، هو مبدأ اساسي من مبادىء المهنة، والاخلال به يندرج في باب التضليل، ويضرب صدقية المؤسسات الاعلامية، ويجعل حرية الصحافة، كلبيّة (الكلبيّة هي ازدراء المبادىء والقيم والاعراف الانسانية).
حريّة الصحافة، من دون النزاهة ويقظة الضمير والالتزام الصارم بالاصول المهنية، تعني حرية الكذب والمَلَق والخداع. انها حرية فاسدة، تزكم الانوف، وتعددية زائفة مرتبطة بمصادر التمويل.0