العرب اليوم
ناهض حتّر
لا يدخل حرق العلم الأردني (من قبل مواطن أردني وفي العاصمة عمان) في باب التطرف السياسي أو في باب خرق القانون، ليست هذه قضية سياسية أو قانونية، بل قضية وطنية ثقافية قيمية أساسية، إنها فاجعة حقيقية، علينا أن نواجهها، بشجاعة، وندرسها، ونلاحظ أبعادها بالتدقيق والعناية اللازمة، وبصورة علنية، وفي الحقل الثقافي القيمي لا في الحقل الأمني أو حتى السياسي.
حرق علم الوطن من قبل مواطن، ليس تعبيراً عن لحظة معارضة سياسية أو حتى لحظة ثورة، بل لحظة كثيفة من الانشقاق العميق ورفض الكيان والجماعة الوطنية والهوية، إنه أفدح فعل عنفي يشهده الأردن منذ وقت طويل وهو أعظم خطراً من الإرهاب، فالأخير طارئ وخارجي وعابر، أما إعلان الانشقاق عن الجماعة الوطنية، في أقسى صورة ممكنة فهو خطر جاثم وداخلي ومتجذر.
حرق علم الوطن من قبل مواطن ليس قضية سياسية فأكثر الأردنيين تطرفاً وقصووية، أعلنوا عن مواقفهم الرافضة للحكومات وسياساتها، وأحياناً للنظام السياسي نفسه، تحت ظل العلم الأردني. والأردني المصمم على رفض إسرائيل وأميركا، بل وعلى مقاومتهما بالقوة، يفكر لا شعورياً بأن جثمانه سيلف بالعلم الأردني عند استشهاده أو رحيله، وحين كان الشيوعيون حزباً ممنوعاً يعاقب المنتسبون إليه بالسجن مدة عقد كامل، كان هؤلاء يرفعون العلم الأردني في المحافل الدولية التي يحضرونها. وجثمان المناضل والمفكر القومي منيف الرزاز وهو الذي أعطى حياته كلها للمشروع الوحدوي العربي، مضى الى ثرى الأردن، ملفوفاً بالعلم الأردني والرزاز كما هو معروف أردني من أصل سوري ولكن العلاقة بالعمل الوطني معقدة تعقيداً شديداً… ذلك ان العلم الوطني هو الرمز المجرد غير المقيد بالسجالات والصراعات السياسية وهو لا يعبر عن النظام السياسي ولا عن الكيان إنه رمز كلي للجماعة الوطنية، وبهذا المعنى كان الرزاز، بالمحصلة أردنياً.
هل تلاحظون مثلا أن العرب العراقيين من المقاومة ونقيضها في «مجلس الحكم» يمارسون الصراع الدموي العنيف جدا، تحت العلم العراقي ذاته؟ فالعلم الوطني إذن، هو رمز للمشترك الجماعي غير المشروط بالسياسة، وقد تغير جماعة وطنية، بقرار سيادي، علمها من حيث الشكل أو الألوان. مثلما فعلت الثورة الناصرية في مصر، ولكن العلم الوطني برمزيته الأساسية يظل حاضراً في الحالتين، من حيث هو، في لحظة محددة، تعبير عن الجماعة الوطنية، ولا أحسب أن الجماعة الوطنية الأردنية ستغير شكل علمها، أبداً، ذلك أنه يعبر بدقة، عن روحها فالعلم الأردني هو عام العروبة مميزاً بالنجمة التي تميز البلد.
ولهذا الاسترسال وظيفة فكرية، وبودنا أن لا نختمه تواً قبل أن نقول أن آلاف الأردنيين قاتلوا الصهيونية تحت ظل هذا العلم وقد تخضب بدماء الشهداء والجرحى وعذابات المناضلين وتطهر برجفات القلوب البريئة لأجيال من الأطفال الذين وقفوا في الصباحات الباردة يهتفون «يا علمي… يا علم» إن الجهود المخلصة والمبدعة لأجيال من الأردنيين، وعرقهم وكدهم وآلامهم وآمالهم، قد ارتبطت بهذا المعطى الرمزي، فأصبحت له كثافة الذاكرة الجمعية للشعب الأردني.
لذلك، يشكل حرق العلم الأردني، عنفاً عدوانياً موجهاً ضد الجماعة الوطنية الأردنية برمتها، وضد تاريخها وذاكرتها ووجودها وهو عنف أخطر من أن يعالج بالعنف الأمني أو بالتطبيق الحرفي للقانون أو بالتحقيق النيابي في «الحالة»، بل بدراسة الحالة، واكتشاف السيكولوجيا الاجتماعية، السياسية، وراء الحدث.
لا يشعر الذي حرق العلم الأردني بأنه علمه الوطني، لو كان يشعر بذلك لما حرقه، بل أعلن عن مواقفه السياسية الغاضبة في ظلاله ولا بد أن نكظم الجرح ونعض على الألم، ونرى حجم الحالة المدروسة، وانتشارها، وكيفية معالجتها بنظرة استراتيجية، إذ لم يعد ممكناً الاستمرار في قسر من لا يريد… على أن يكون جزءاً من جماعة وطنية، آن الأوان لكي تدرك ذاتها جماعياً.