*
في اليوم الأول من العدوان الإسرائيلي على غزة، أظهرت القيادة الأردنية الكثير من الجدية في إظهار موقف متماسك في مواجهة التصعيد الصهيوني الخطير. وتظهر قوّة هذا الموقف، وخصوصاً مقارنةً بالسلطة الفلسطينية التي بررت العدوان المجرم (وفقاً لتصريحات مستشار رئيس السلطة نمر حماد)، وحمّلت «حماس» المسؤولية عن نتائجه، أي إنها دانت الضحية لا الجلاد. وكذلك مقارنةً بالموقف المصري، الغامض والمشبوه معاً.
صُدم الملك عبد الله الثاني بتجاهل الإسرائيليين الوقح لتحذيراته من مغبة العدوان على غزة، واستمرائهم تقديم وعود كاذبة بهذا الشأن، تماماً مثلما فعل رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الذي لحس وعوده للملك الأردني بشأن جهود منع انفجار الوضع. ولا نعرف، ولا أحد يعرف حتى الآن، ما هو التفاهم الذي عقده عباس مع تل أبيب، وجعله يؤكد، قبل أيام من العدوان، أنه عائد إلى غزة قريباً.
إسرائيل تسفك الدم الفلسطيني في غزة بلا حساب، في «محرقة» جديدة سوف يسجلها التاريخ، لتحقيق أهداف متعددة أولها الثأر من هزيمة جيشها في لبنان عام 2006، واستعادة «هيبتها» وقدرتها الردعية، وثانيها ترهيب الفلسطينيين في غزة، وتالياً في الضفة، ودفعهم للامتثال والخضوع لخطط تصفية القضية الفلسطينية عبر دويلة مقطعة الأوصال بلا سيادة ولا تواصل جغرافي ولا إمكانات للحياة، وثالثها، خلق ظروف تدفع الفلسطينيين للهجرة مجدداً من ديارهم. وسيكون من الطبيعي أن نستنتج إذن، أن العدوان على غزة هو في محصلته النهائية، يمثل عدواناً على الأردن أيضاً… وأنه يأتي في سياق مخططات الوطن البديل.
لقد دانت الحكومة الأردنية بقوة العدوان الآثم، وأعطت الضوء الأخضر للتحركات الشعبية ضده، بما في ذلك مسيرة ضد السفارة الإسرائيلية. وهي رسالة بالغة الدلالة موجهة إلى إسرائيل والولايات المتحدة معاً. غير أن تصريحات وزير شؤون الإعلا م، ناصر جودة، عن استبعاد قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، باعتبار أن «الأولوية الآن هي لوقف العدوان»، ليست سوى تكرار للسياسات القديمة العاجزة. ذلك أن طرد السفير الإسرائيلي من عمان يمثل أفضل وسيلة للضغط في سبيل وقف المعتدين، الذين عليهم أن يختاروا فعلاً بين السلام وبين العدوان. ولن يعود ممكناً، بعد اليوم، قبول صيغة تمكن الإسرائيليين، في الوقت نفسه، من ارتكاب المجازر في غزة والضفة والاحتفاظ بسفارة في عمان.
العدوان الإسرائيلي على غزة سوف يفشل. سوف يلحق الكثير من الدمار ويسقط الكثير من الشهداء والجرحى، ولكنه لن يحقق في النهاية أهدافه السياسية أو الأمنية. وحتى لو حقق المعتدون انتصاراً عسكرياً ـ وهو أمر ضعيف الاحتمال ـ فإنه سيرتد عليهم في كل الأحوال هزيمة سياسية. فالنار التي تلتهم غزة، حرقت نهائياً صدقية السلطة الفلسطينية. وهي ستضاعف قوة «حماس» لا في غزة وحدها، بل في الضفة والمهاجر الفلسطينية. وسوف تُسقط نهائياً أيّة شرعية للمفاوضات الثنائية، وسوف تُطرح مرة أخرى شعارات المقاومة والتحرير والعودة، كمرجعية للعمل السياسي الفلسطيني. وهو ما يمثل نهاية لمرحلة أوسلو و«السلام» العربي ــ الإسرائيلي. فهذا «السلام»، لكي نتذكر، لم يحصل على الشرعية إلا بفضل الموافقة الفلسطينية، وانطلاقاً من اتفاقات أوسلو. قبلها كانت مصر، بوزنها المعهود، ترد هجمات لم تنقطع عن اتفاقات كامب ديفيد التي أصبحت الآن مقبولة ومنسية.
غير أنه لدينا الكثير من المعطيات التي تجعلنا نميل إلى أن سيناريو غزة 2008، سيكون تكراراً لسيناريو لبنان 2008. أي إن «حماس» سوف تخرج من اللهيب أقوى من أي وقت مضى. وفي هذه الحالة، سيكون على سلطة محمود عباس أن تتوارى، فاقدةً ورقة التوت الأخيرة، متحولة إلى مجرد أداة أمنية محلية بيد الإسرائيليين. وبما أن السياسة الفلسطينية ليست مبنية على توازنات طائفية معقدة، كما هي الحال في لبنان، فإن سيناريو الدوحة ليس قابلاً للتكرار في فلسطين. وما نرجحه انتفاضة شعبية تؤدي إلى سقوط السلطة الفلسطينية في الضفة، وتجديد آليات المقاومة الشعبية ضد الاحتلال.
سيكون على صانعي السياسات في عمان أن يتحلّوا بالشجاعة والصبر، لكي يحوزوا الإدراك الصحيح بأن طريق الحفاظ على المصالح الوطنية الأردنية يبدأ بالتحالف مع «حماس» ودمشق. وهو إدراك توصّلوا إليه بعد معاناة التهميش في ظل «تحالف المعتدلين»، ذلك الذي انكشف عن تفاهم إسرائيلي ــ فلسطيني ــ سلطوي، مدعوم ضمناً من القاهرة والرياض، على صيغة حل تؤدي حتماً إلى الوطن البديل.
علاقات السلام الأردنية ــ الإسرائيلية وصلت إلى طريق مسدود. بل هي تقوّضت، موضوعياً، في مفصلها الرئيسي. فالمعادلة الجوهرية التي تتضمّنها معاهدة وادي عربة 1994، تقوم على الآتي: اعتراف إسرائيلي نهائي بالدولة الأردنية، والالتزام المكتوب بعدم تهجير المزيد من الفلسطينيين شرقي النهر، مقابل اعتراف نهائي بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها وتوقيع سلسلة من اتفاقات التعاون. وكان المسؤولون الأردنيون يبررون التنازلات التي قدّمت إلى تل أبيب في قضايا الأرض والمياه واللاجئين، بأنها الثمن الذي لا بد من دفعه لدفن مشروع الوطن البديل.
وبطبيعة الحال، فإن الالتزامات الإسرائيلية المنصوص عليها في «وادي عربة»، تتعارض مع الأفعال التي من شأنها تهجير الفلسطينيين عن أرضهم. وهو ما تمارسه إسرائيل من دون انقطاع مذّاك، وتحوّل اليوم إلى حرب إبادة وتهجير مكشوفة وإجرامية.
من المعروف أن المسؤولين الأردنيين أكدوا دائماً أن تحويل «وادي عربة» إلى واقع، ليس ممكناً من دون الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 67، وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة المتواصلة القابلة للحياة. وهو هدف بقي، منذ 1994، محور السياسة الأردنية، والأساس لتبرير العلاقات مع تل أبيب، لاستخدامها في دعم المفاوض الفلسطيني. وقد تبين الآن أن هذا الهدف ليس ممكن التحقيق في ظل إصرار تل أبيب على ضم الأراضي في الضفة والتنكيل بالشعب الفلسطيني ومحاصرته وتجويعه وممارسة عمليات القتل الجماعي ضد أبنائه، في إطار مخططات تهجيره عن أرضه.
كما انكشف أن المفاوض الفلسطيني أفرط في التنازلات إلى الحد الذي أصبح معه الأردن ــ لا فلسطين ــ هو محور المفاوضات مع الإسرائيليين والأميركيين.
دماء الغزاويّين الزكية مقدسة بالطبع، ولكن لكي لا تذهب بلا ثمن، فإنها تقدم فرصة تاريخية لعمان من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات بقوة، ومن نقطة الصفر. وهو ما يقتضي الاستجابة للرأي العام الأردني الذي يطالب بطرد السفير الإسرائيلي من عمان وسحب السفير الأردني من تل أبيب، مقدمة لإلغاء معاهدة وادي عربة. هذه المطالبة ليست «عاطفية»، بل هي تعبّر بدقة عن المصالح الاستراتيجية للدولة الأردنية، التي بات من ألحّ واجباتها إزاء نفسها أن تضع حداً للسلام المجاني مع إسرائيل.
غزة إذن فرصة أردنية بامتياز للتصعيد المدروس، ولكن الشجاع، من أجل فرض عودة عمان إلى طاولة المفاوضات من جديد. وهذه المرة من دون التفريط بقطرة ماء أو شبر من الأرض أو عودة اللاجئين. لا سلام بين الأردن وإسرائيل من دون عودة اللاجئين. فحتى العودة المحدودة المتدرجة سوف تعني واقعياً وقف نزف التهجير. كذلك، لا بقاء للكيان الأردني، بسيادته وهويته وكيانه وتماسكه الداخلي، من دون نشوء كيان فلسطيني مستقل يوفر إطاراً للمشروع الوطني الفلسطيني، مشروع إعادة تأسيس مجتمع ممزق.
يعني ذلك أنه لا مناص أمام عمان من تجديد وحدة المسارين، الأردني والفلسطيني. فالقضايا متشابكة على ضفتَيِ النهر بحيث لا يمكن فصل بعضها عن بعض. وإذا كان هنالك سلام، فهو ليس ممكناً إلا مع دولتين، أردنية وفلسطينية، معاً وفي الوقت نفسه.
كيف يمكن عمّان أن تستعيد وحدة المسارين، بما يضمن حقوقها ومصالحها العليا؟ يمكن ذلك فقط بإلغاء معاهدة وادي عربة. في الحال، سوف تنقلب الطاولة على الإسرائيليين والسلطة الفلسطينية والنظام المصري، وسيعود الأردن إلى قلب القضية فوراً، محتفظاً بكل الخيارات الممكنة للدفاع عن وجوده، بدءاً بتجديد المفاوضات وانتهاءً بالقتال.
* كاتب أردني
غزة وعمان: الجرأة الجرأة الجرأة!
Posted in Uncategorized.