ملحق العرب اليوم
الناس في بلدي
ناهض حتّر
أتتبع خطاه في قاهرة الستينات. ما زلت أرتجف برهة الدخول إلى مقهى “جروبي” في مديان طلعت حرب. أتصفح المناضد بحثاً عنه، فألاحظ أصدقائي المصريين الذين واعدتهم هنا. يبدأ حوار صاخب ممتد. وفي لحظة التعب، يقول مهدي الذي عاش عصر غالب هلسا في مقاهي القاهرة، واندمج، شاباً، في جلساته الحوارية: إنك تشبهه! كيف؟ استراتيجية الحوار! كان غالب يهاجم الفكرة المسيطرة بتركيز ومثابرة، يقصفها من دون التواء، ويفككها.
أشعر بالفخر. وفي الحقيقة أنا تلميذ غالب هلسا وتابعه… سوى أنني أفتقر إلى مواهبه اللامعة المندفعة كالنهر. أنا لم ألتق غالب أبداً، فحين أصبح بإمكاني السفر، عندما تم إلغاء الأحكام العرفية العام ١٩٨٩، حزمت حقيبتي وشوقي إلى لقاء العبقري الأردني في دمشق، ولكنه مات… في اللحظة نفسها. ولذلك، وقفت في مقبرة أم الحيران، في جنازته، وأفرغت غضبي على أولئك الذين دفعوا أجمل الأردنيين إلى الموت في الغربة.
أما معرفتي الوثيقة بغالب، فترجع إلى أنني قرأته مرة إثر مرة، من دون توقف.
حفظت رواياته السبع وقصصه القصيرة، ودراساته في التراث، والنقد الأدبي والنقد السياسي ومقالاته، بل انني قضيت سنتين كاملتين وأنا أراجع مواد وتعليقات ومقالات نشرها غالت في صحف ومجلات هامشية… وهي كنز فكري استطعت أن أجمع بعضه في ثلاثة كتب نشرتها بعد وفاته. وهي: “أدباء عرفتهم، أدباء علموني” و”اختيار النهاية الحزينة-يوميات الصراع الطبقي في الساحة الفلسطينية في الثمانيناث” و”الهاربون من الحرية.”
ان قراءة غالب هلسا هي واحدة من المتع النادرة في الحياة. وقد قرأته إلى درجة أنني عشت حياته مرة أخرى، وتمثلت أفكاره، واستراتيجياته، وأحزانه. ولذلك، تراني أسير من “جروبي” إلى “الهيلتون” لأعيش، بكل وجداني، كأنني هو، مشهداً روائياً في “البكاء على الأطلال”. أسير لمقابلة امرأة فقدتها ولن تعود لي، شاعراً بالألم نفسه، بثقل خطوي على الأرض، وبالضياع… وبالرغبات المشتعلة الممنوعة إلى الانتماء والتواصل والحب.
كتب غالب هلسا سبع روايات (هي أيضاً، سيرته الذاتية الطويلة)، تمنحه المركز الأول بين الروائيين العرب من الجيل التالي لنجيب محفوظ. وهي كتبت جميعاً من منظور مثقف كوني يرصد اللحظة التاريخية في تجلياتها العيانية: “الضحك” و”الخماسين” و”البكاء على الأطلال” و”الروائيون”، سيرة ملحميّة لحياة المثقفين اليساريين المصريين في الحقبة الناصريّة، لم يستطع أن ينجزها روائي مصري، ليس فقط لأنها مكتوبة بقلم موهبة استثنائية في تاريخ الأدب العربي، ولكن، أيضاً، لأنها مكتوبة بقلم مثقف كون مخلص لتكوينه الأساسي، الآتي من الحكاية الأسطورية الأردنية، ويسعى، في الوقت نفسه، إلى الاندماج العضوي في الحياة المصرية. وهذا الجدل المعقد، الموجع، الرائي، أتاح لغالب أن يرى الصورة من خارجها وهو فيها وجزء منها. وهو، بصفته فناناً عبقرياً، لم يصوّر موضوعه التاريخيّ في شكل مجرد أو ذهني، بل من خلال سيرته الشخصيّة العيانيّة. وهو ما أتاح له إمكانيات خصبة غير محدودة في تصوير الشخصيات والأفكار والمشاعر والأحداث في نسيج فني متسق، وتدفق وجداني وأسلوب انسيابي يأخذ الألباب.
روايته “السؤال” أهجية حادة كالنصل ضد النظام الشمولي، ومعالجة روائية فذّة للحياة المصرية في ظل الناصرية. و”السؤال” هي رد هلسا على رواية “اللص والكلاب” لمحفوظ، إذ تعالج الروايتان الموضوع نفسه، ولكن من وجهة نظر المعارضة اليسارية الكونية، وبأدوات الكتابة المضادّة للرواية البورجوازية. وأنا آمل من المثقفين الأردنيين والعرب، أن يقرؤوا الروايتين، ليس من وجهة نظر المقارنة، ولكن لإدراك العلاقات المعقدة بين الفكر والفن والأسلوب والنظرة إلى الحياة، وتطور البنية الروائية واللغة في الأدب العربي المعاصر.
***
روايته/القصيدة: “ثلاثة وجوه لبغداد” هي معالجة أخرى للنظام الشمولي في طبعته العراقية. والمدهش أن غالب الذي أحب مصر وتمصّر. كان، بالدرجة نفسها، عراقياً وتعرّق. وهو يكتب عن الحياة في بغداد البعثية في نهاية السعينات، كما لم يكتب عراقي. فغالب المتوله ببغداد (التي يقول عنها أنها المدينة الوحيدة التي أعطته من دون حساب ومن دون مقابل!) كان هنا أيضاً في صلب البلد، محتفظاً، بالمسافة الكافية لكي يرى.
غير أن المفاجأة الكبرى ستكون روايته الملحمية “سلطانة” التي تروي صورة الأردن في شبابه… كتبها في الثمانينات بعد غياب طويل عن البلد امتد لثلاثة عقود، ولكن “سلطانة” تظهر أن الغياب كان حضوراً كثيفاً متصلاً حساساً لم يستطعه أحد من الذين أتيحت لهم نعمة العيش في الأردن، والبكاء على صدره!
وكم هو موجع وجميل ومختلف أن تكون أردنياً، أرضعتك “آمنة”، واكتشفت الحياة في عمان الخمسينيات، آتياً من ماعين الأسطورية إلى الحزب الشيوعي الأردني.
ينبض الأردن، في ملحمة غالب هلسا الروائية “سلطانة”، في وجدانه الأعمق الآتي من رحم الحكاية والقيم الفروسية وجمالات الطبيعة وقسوتها، وتوق الجماعة إلى اكتشاف الذات والعالم، وتكوين الرؤية والإيقاع.
لقد اكتشف غالب هلسا سر الأسرار في البلد الذي كونته العشائر المستقرة الآتية من قلب الصحراء المتصلة بالتكوين العربي الحريف، الجاهلي-المسيحي-الإسلامي! إنها أسطورة شعب صغير محتشد بالماضي والمشاعر الجياشة والشمس والسهوب والحريّة، ينجر إلى التموضع في حياة بليدة في “مدن التجار والموظفين الصغار”… إلا انه، في الخمسينيات المجيدة، يتمرد ذاهباً، بصورة شبه جماعية، إلى الأحزاب الثورية، آملاً باستعادة الماضي الفروسي في المستقبل التقدمي.
الشيوعية والبعثية الأردنية في الخمسينيات هي ردة فعل تاريخية على صيرورة تحول الفارس إلى تاجر، والفلاح إلى موظف، و”آمنة” البدوية الحرة-إلى سلطانة نصف الـ…
هنا يقف الروائي المشبع بالروح الأردنية في تجلياتها المنمنمة، القادر على أن يحكي قصة الأردن من الألف إلى الياء، على مسافة، ناظراً، إلى الناس الأعز والبلد الأحبّ، من مسافة المثقف الكوني.
“الأردن الذي تحلم به لم يعد موجوداً” يطعن غالب هلسا قلبه وقلب قارئه، ويفسر لنا غيابه الطويل وحضوره الاستثنائي. كيف حمل غالب، بلداً بأكمله-بناسه وريفه ومدنه وأغنياته وأشعاره وأمكنته وشوارعه ومقاهيه ونسمات هوائه-في قلبه حياً متفاعلاً جارحاً ومجروحاً، كل هذه السنوات، من دون ان ينسى حرفاً في قصيدة بدوية أو ملمحاً في وجه؟!
غالب لم يصور الأردن، بل أضاف إليه. ولم يكتب عن الوطنية الأردنية، ولكنه ألفها بين دفتي كتاب… لا يستطيع المرء أن يكون أردنياً إذا لم يقرأه… ولن يكون قلبه أردنياً، إذا لم يرتجف وهو يقرأ نبضه.