ناهض حتّر
رئيس نيكاراغوا الاسبق، قائد الحركة الساندينية اليسارية، دانيال اورتيغا، عائد الى الرئاسة، هذه المرة، عبر صناديق الاقتراع. وقد حازها «1985 – 1990» بالثورة، قبل ان يأفا نجم الثورات بنهاية الحرب الباردة 1991 .
عودة النسر الاحمر هذه، تلخص مسار التطورات السياسية – الاجتماعية في امريكا اللاتينية – خلال العقدين الاخيرين، من أفول الثورات الى سيطرة الرأسمالية الليبرالية ورجال الاعمال والنخب العميلة للولايات المتحدة، الى العودة المظفرة لليسار الاجتماعي في الديمقراطيات الجديدة.
وانتقال نيكاراغوا، مجدداً، الى اليسار، مثال جديد على ابلال امريكا اللاتينية من الفيروس الليبرالي الذي ضرب مجتمعات القارة، وامرضها في التسعينيات. والآن، فاننا نشهد ولادة شبكة من النظم اليسارية في القارة. فبالاضافة الى النظام الاشتراكي التقليدي في كوبا، هناك النظم اليسارية، الاجتماعية – بتلاوينها وتدرجاتها – في فنزويلا وبوليفيا والتشيلي والبرازيل، بينما تزدحم الحياة السياسية في البلدان الاخرى بالحركات التقدمية والشعبية الصاعدة. فاليسار اصبح القوة الرئيسية في القارة، بينما تبدو الولايات المتحدة مشلولة عن المبادرة المضادة.
ويمكننا، بالطبع، ان نعطي اسباباً متنوعة لهذا الشلل، منها غرق ادارة بوش الصغير في العراق، لكن السبب الرئيسي وراء التحييد الواقعي لقوة واشنطن في مواجهة اليسار اللاتيني، يكمن في قوة التأييد الاجتماعي للحركات اليسارية، والتزامها بوسائل الشرعية الديمقراطية، وتقديمها الحلول الاكثر واقعية للمشكلات الاقتصادية – الاجتماعية في القارة.
جربت امريكا اللاتينية الدكتاتوريات بكل اشكالها، وما جلبته من انهيارات اقتصادية ومديونيات خيالية، ثم انتقلت الى الخضوع لبرامج «التصحيح» الاقتصادية تحت سيطرة صندوق النقد الدولي، والسياسات الليبرالية، وجوهرها السعي الى الاندماج في الرأسمالية العالمية، عبر الخصخصة والسوق المفتوحة وحرية واولوية «الاستثمار» بالنسبة للدول والمجتمعات، وهي عملية ادت الى افقار الفئات المتوسطة، وتشديد النكير على الفئات الشعبية. وقد انتهى كل ذلك الى صحوة مجتمعية جبارة استوعبتها منظورات وحركات يسارية متجددة ومبدعة ومناضلة.
لم يحدث – بالنظر الى خصائص ثقافية لاتينية – تناقض بين النزعات اليسارية وبين الكاثوليكية – مثلما حدث في العالم العربي ذلك التناقض السيء بين اليسار والاسلام – كذلك، فان الحركات اليسارية اللاتينية – بخلاف العربية ايضا – لم تعزل نفسها عن حركات القاع، واشتغلت، بالاساس، على بلورة المطالب الاجتماعية والدفاع عنها، واتبعت – حتى بعد انقضاء الحرب الباردة – تقاليد النضال ضد «اليانكي» الامريكي الشمالي. اي انها – في معظمها – لم تفصل بين الوطني والاجتماعي.
امريكا اللاتينية، سبقتنا بعقد من السنين. فالعرب يعيشون الآن في التسعينيات اللاتينية. فهل يكون لليسار العربي، اذن، مستقبل؟ ومستقبل قريب؟
من الناحية الموضوعية نستطيع الاجابة بنعم كبيرة، طالما ان التجربة الليبرالية الجديدة تتدهور نحو الافلاس المحتوم.
لكن، بالمقابل، لدينا معيقات جدية، اهمها «1» قوة الاسلام السياسي، المتحالفة، في الميدان الاقتصادي – الاجتماعي، مع الرأسمالية الليبرالية وليس مع اليسار «2» ضعف القوى الديمقراطية العربية، وعجزها المتكرر عن تحقيق التحول الديمقراطي «3» نخبوية اليسار العربي، وميوله الايديولوجية الفقهية، ونكوصه عن التغلغل بين الفئات الشعبية «4» قوة وتركيز الهجمة الامبريالية الامريكية على المنطقة العربية، ووجود اسرائىل، والتقاليد السوداء للعصبيات الطائفية والأتنية.
ومع ذلك كله، فان المثال الامريكي اللاتيني يبرهن على ان الحل اليساري، ما يزال ممكناً، خصوصا اذا ادرك اليساريون العرب ان المستقبل ينتظرهم، واستعدوا – منذ الآن – لمتطلباته الفكرية والتنظيمية.