إذاً، كان سرّ قوة النظام الأردني في مواجهة خصومه، في الداخل والخارج، انه تابع، بأقصى مرونة ممكنة، بناء دولة خلدونية ناصرية، استوعبت، بانتظام، ليس حسب شيوخ العشائر التقليديين، ولكن، أيضا، أبناء العشائر المثقفين، »القوميين« و»اليساريين«، مما جعل العصبية الاردنية، تتماسك اجتماعيا، وتميل ايديولوجيا، نحو القيم العروبية و»اليسارية« بمعنى التأكيد على دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي وحقوق الفقراء، والعداء للقطاع الخاص والأغنياء ان القيم »المساواتية« الفلاحية البدوية، والنفور من التجارة وتقاليدها، وإدانة الثراء والبذخ، وأولوية المكانة العشائرية السياسية على المكانة المالية، تعانقت (هذه القيم) مع الأفكار الجديدة للعدالة الاجتماعية التي حملها، الى الوعي العشائري، بحثيون ويساريون، تصالحوا مع النظام ومع ذويهم الموالين له، ولكنهم ظلوا يمارسون تأثيرهم في بناء الوعي الاجتماعي للعصبية الأردنية، سيما وان الاخيرة انتعشت في سياق القطاع العام.لقد كانت ذروة تأثير ممثلي العصبية الاردنية في النظام، على سياسته الخارجية، في توليد الضغط الكافي لحسم الموقف، سلبيا، من المشاركة في مسيرة كامب ديفيد، والالتزام بالإجماع العربي نحوها. وكانت هذه اللحظة، بالذات، حتى نهاية السبعينيات، هي التي بدأت فيها العلاقات الاردنية العراقية التي توطدت، لاحقا، الى تحالف استمر حتى حرب الخليج الثانية.اكتشف النظام العراقي، في أجواء الموقف المشترك من كامب ديفيد، خصوصية البنية الداخلية الاردنية، وربما لاحظ ان في عدد الوزراء والمسؤولين »البعثيين« والميول »البعثية« في أجهزة الدولة الاردنية، ما يشكل أساسا لتعاون وثيق بين القطاع العام العراقي والقطاع العام الأردني اللذين تشاركا في العديد من المؤسسات والمنشآت التي شغّلت، بدورها، العديد من أبناء العشائر، سواء بوصفهم موظفين او عمالا او مقاولين صغارا في اكثر من قطاع، لا سيما قطاع النقل. وباندلاع حرب الخليج الاولى، ازدهرت الأعمال العراقية في الأردن، وأصبح العراق، الشريك الاقتصادي الأول للبلاد، ونشأت صناعات ومؤسسات خدماتية وتجارية ومالية لخدمة المتطلبات العراقية، وكان تأثير الشراكة الاقتصادية الاردنية العراقية يشمل، الى القطاع العام، القطاع الخاص أيضا. وبذلك دخل النظام العراقي في عمق البنية الاردنية، وصار فيها طرفا »داخليا«. وعزز هذا الاتجاه ما قدمته بغداد للخزينة الاردنية من منح مالية وبترولية (الاخيرة مستمرة حتى الآن). ويجب ان نتذكر ان كل ذلك كان يتم في إطار التوافق، في السياسة الخارجية، بين الرئيس صدام حسين والملك حسين. ولكن هذا التوافق، بعد عقد من الشراكة الأردنية العراقية، لم يعد يعوق استمرارها، لسببين أولهما ان تلك الشراكة متجسدة في مؤسسات ومنشآت واستثمارات وعلاقات، تشغل حوالى 40$ من مجمل العمليات الاقتصادية الأردنية، وثانيهما لأن النظام العراقي والعصبية الاردنية تشابكا في علاقات اقتصادية سياسية، فهما يتقاسمان المصالح نفسها، ووجهات النظر السياسية نفسها، والميول نفسها. ولذلك، واجه انقلاب النظام الاردني على حليفه العراقي، وسيواجه لاحقا، مقاومة العصبية الاردنية، ليس لأن »عملاء« عراقيين يحرضون العشائر كما تدعي الحكومة الاردنية بل لأن النظام العراقي، سواء في تأثيره الاقليمي الممكن، أو في تأثيره الأردني المستمر، هو الحليف »الداخلي« الرئيسي للعصبية الاردنية في صراعها لاستعادة »دولتها« التي يجري، منذ نهاية الثمانينيات، تفكيكها، أولا ببطء، ومنذ 1994، بتسارع عنيف.بين 1988 و1998، نفذت الحكومات الاردنية المتعاقبة، الخطة العشرية »للاصلاح الاقتصادي الهيكلي« التي فرضها صندوق النقد الدولي، اثر انفجار ازمة المديونية العامة وانهيار الدينار. وقد تضمنت هذه الخطة، اجراءات انكماشية (خفض الاستثمارات الرأسمالية الحكومية) وتقشفية (خفض الدعم عن السلع والخدمات) وزيادة الضرائب، وتحرير اسعار الصرف، والخصخصة، وإلغاء القوانين التي تحد من حرية الرأسمال الأجنبي في التملك والاستثمار.وكان تعاون الجانب الأردني، خلال العقد التصحيح، مثار إعجاب صندوق النقد الدولي »الصند« وتقديره. فعلى العكس مما جرى في معظم البلدان التي نفذت برامج »الصند«، لم يشهد تنفيذ البرنامج في الأردن، خلافات أو عقبات او تباطؤا، بل حماسة واستعجالا من الجانب الأردني. وردا على الانتقادات الموجهة »للصند« في أعقاب قرار الحكومة الاردنية إلغاء الدعم عن القمح والأعلاف، الذي أدى الى »انتفاضة الخبز« في آب 1996، سربت مصادر في »الصند«، معلومات اعلنها، في حينه، رئيس الوزراء الاسبق، احمد عبيدات، تقول: ان رئيس الوزراء، آنذاك، عبد الكريم الكباريتي، وليس الصند، من استعجل القرار، وأراد تنفيذه حالا.ومهما يكن من أمر، فقد حظي المسؤولون الاردنيون، مرارا، بمدائح »الصند« على »الأداء الاردني الانموذجي« لبرنامج التصحيح الذي حقق »نتائج باهرة« لم يكن من بينها، بالطبع، خفض المديونية، بل تمكين الخزينة من خدمتها. وهذا هو الهدف الرئيسي »للصند«. اما التيار النيوليبرالي الكمبرادوري في النخبة الحاكمة، فقد وجد، في برنامج التصحيح، أداة لتنفيذ برنامجه الاجتماعي السياسي الخاص، واستقوى »بالصند«، وبالولايات المتحدة، وتاليا باسرائيل، لتنفيذ انقلاب شامل في البنية الاردنية، كان القمع الدموي لعشائر معان، وتجريدها من سلاحها، بداية مرحلته الاخيرة.كان التيار النيوليبرالي الكمبرادوري المتأسرل، الطرف الأضعف في النخبة الحاكمة، بينما يهيمن التيار البيروقراطي الميّال للتعاون مع العراق (وقسم منه مع سوريا)، نسبيا، على الحكومات المتعاقبة في السبعينيات والثمانينيات، ومن أبرز رؤساء هذه المرحلة: زيد الرفاعي، ومضر بدران، وعبد الحميد شرف، وأحمد عبيدات. وبالرغم من ان حكومة الرفاعي الثانية (1986 1989) قد اتجهت نحو الليبرالية الاقتصادية، وبدأ في عهدها، بالذات، تطبيق برنامج الاصلاح العشري، الا انها كانت حكومة تقليدية، وتتحرك داخل البنية الاردنية ولا تسعى الى تفكيكها. وقد واجهت، مع ذلك، انتفاضة شعبية واسعة، في نيسان 1989، انطلقت من معان، وانتشرت في سائر مناطق البلاد ذات الكثافة الشرق أردنية، بما فيها الجيوب العشائرية في العاصمة عمان. وقد دعم التيار البيروقراطي هذه الانتفاضة، وامتنع مسؤولون أمنيون وعسكريون عن قمعها، فاتسع مداها، واتخذت طابعا سياسيا صريحا حين صار شعارها الرئيسي: الديموقراطية. واتضح انه من الصعب كبح جماح الحركة الشعبية التي عبرت عن نفسها، بعد المظاهرات العنيفة، بسيل هادر من المطبوعات والاجتماعات واللقاءات »غير الشرعية«. وتشكلت لدى القصر، والنخبة البيروقراطية والامنية، قناعة بأنه لا بد من إحداث تغيير في أساليب الحكم.استعان القصر بالرئيسين؛ مضر بدران، فكلفه تشكيل حكومة جديدة اعلنت »توجهات ديموقراطية«، واحمد عبيدات، فكلفه تشكيل هيئة من كل الاتجاهات السياسية لإقرار »ميثاق وطني« للمرحلة الجديدة. تراجع الحديث (مؤقتا كما سنرى) عن »الخصخصة«، و»الحل السلمي«. وتوثقت، بصورة لم يسبق لها مثيل، علاقات التعاون مع العراق. ونشطت الأحزاب علنا، وانتعشت القوى الشعبية والمعارضة، وحازت، في الانتخابات النيابية، على 33 مقعدا من أصل 80 مقعدا، بينما انخرطت القوى السياسية والاجتماعية والنقابية، والشباب والطلاب والنساء، في إنشاء منظمات جديدة او مقرطة اخرى قائمة. وراجت آمال في امكانية إحداث تحولات ديموقراطية عميقة في البلاد في ظل التوافق الوطني، وسلميا.في ظل هذه الاجواء، حدث الاجتياح العراقي للكويت في 2/8/1990. وشهدت البلاد منذ اليوم التالي وحتى شباط 1991، خروج الحركة الشعبية الاردنية عن كل قيد. وحسب تقديرات محايدة، شارك حوالى مليون مواطن ومواطنة في مسيرات واجتماعات حاشدة، قامت في كل المدن والقرى والمضارب الاردنية.وقد انتهى كل ذلك، بالهزيمة القاسية التي تلقاها العراق في شباط 1991. وفي اجواء الإحباط، تمكن الأمن من اعادة سيطرته على الشارع، وكبح جماح الحركة الشعبية، ثم جاء انهيار الاتحاد السوفياتي، ليوجه ضربة موجعة للقوى اليسارية والتقدمية، فتراجع دورها وتشرذمت، وتولى الاخوان المسلمون وهم حليف تقليدي للنظام شأن الحركة الشعبية، وران ركود انتظاري على الحياة السياسية. وقد سمح كل ذلك للتيار النيوليبرالي الكمبرادوري ان يعزز قواه، سيما وان الوفد الاردني المفاوض الى مباحثات السلام التي تلت مؤتمر مدريد، تشكل أساسا من بين صفوف هذا التيار، وقاده بيروقراطي من الصف الثاني هو الدكتور عبد السلام المجالي. وبإعلان اتفاقية اوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، في أيلول 1993، واندفاع القسم الرئيسي من فلسطينيي الأردن الى تأييدها، تشكلت ظروف ملائمة أمام التيار النيوليبرالي المتأسرل للقفز الى المقدمة، وتشكيل برلمان 1993 على هواه، واستقطاب فعاليات سياسية واجتماعية واعلامية بتوفير سبل »الصعود« امامها. وبعد فترة تردد قصيرة انحاز القصر، نهائيا، للتوجهات الجديدة، وتكونت قوة دفع كافية للتوقيع على المعاهدة الاردنية الاسرائيلية في خريف 1994.مذ ذاك، تبلورت السياسة الرسمية الاردنية على أسس نيوليبرالية متأسرلة صريحة، سنخصص الحلقة الاخيرة، غدا، للحديث عنها.