العرب تحت الحصار: ليس هذا تعبيرا مجازيا، بل هو خلاصة واقع أسود، نجول، تالياً، على أبرز نقاطه، ملاحظين مستويات الحصار على العرب، ومعناه، وضرورة كسره.(1)على المستوى الاول، تقع ثلاثة بلدان عربية، اليوم، بموجب قرارات صادرة عن مجلس الامن الدولي، تحت طائلة العقوبات الدولية »المشرّعة« المتعددة الأوجه. وهذه البلدان هي: العراق، وليبيا، والسودان.يعاني العراق، منذ آب 1990، حظرا شاملا على الصادرات والواردات، وعلى الطيران الخارجي وبعض الداخلي، وعلى جملة من النشاطات الدبلوماسية وتحركات المسؤولين، وعلى التصرف بأمواله المجمدة لدى المصارف والحكومات، ومؤخرا، بريع صادراته النفطية المقننة ضمن برنامج »النفط مقابل الغذاء والدواء« الذي يعطي الأمم المتحدة، وحدها، حق التصرف بهذا الريع، بما في ذلك اقتطاع 30 في المئة منه لتسديد التعويضات التي فرض مجلس الأمن الدولي على العراق دفعها »للمتضررين« من حرب الخليج الثانية، عدا عن اقتطاعات أخرى لتمويل أنشطة الأمم المتحدة في العراق. هذا، بالإضافة، طبعا، الى الحظر الرئيس على الاسلحة غير التقليدية وبعض التقليدية، والتقنيات من كل المستويات، وتحركات القوات المسلحة داخل الأراضي الوطنية، في ما يُسمّى »المناطق الآمنة«.وتُلحق هذه العقوبات خسائر فادحة بالاقتصاد العراقي، يصعب حصرها بالأرقام، وتُعجز الدولة عن تقديم الخدمات العامة، في كل المجالات، بالكم والنوع المطلوبين، او توفير الغذاء والدواء، بالكميات والأنواع والأسعار الملائمة للأغلبية، ما يؤدي الى انتشار الجوع والأمراض والوفيات المبكرة، على نطاق واسع، ولا سيما بين الأطفال الذين يعاني الملايين منهم سوء التغذية والهزال وفقر الدم وعدم توفر اللقاحات والعلاجات الضرورية، ما ينتج عنه ليس فقط عشرات الوفيات المجانية بينهم يوميا، ولكن، ايضا، تدمير صحة الاجيال القادمة من العراقيين.لقد آذت العقوبات المتشددة، إيذاءً عميقا، التطور الصناعي والتقني في العراق، الذي كان اكثر البلدان العربية تطورا في هذا المجال. والأفدح انها أدت الى تهجير آلاف الكادرات العلمية العراقية، والى تدمير النظام التعليمي، وخاصة الجامعي، جراء عزلة الأكاديميين ورجال العلم العراقيين عن التطورات المتسارعة في المجال العلمي خلال ما يقرب من عقد كامل.وإذا ما وضعنا التأثيرات السلبية العميقة للعقوبات على مجمل التطور الروحي والثقافي للمجتمع العراقي، فإن الحاجات الملموسة لإعادة إعمار وتطوير البنى التحتية والصناعية والنفطية والتقنية، سوف تضطر العراقيين، لدى رفع الحصار، الى بذل عشرات مليارات الدولارات والجهود المختلفة المنظمة، ربما غير الممكنة بالنسبة الى اقتصاد ومجتمع مدمرين، بدون مساندة عربية ودولية واسعة النطاق، يبدو انها غير ممكنة في المدى المنظور.وتعاني ليبيا، بدرجة أقل، منذ آذار 1992، جراء العقوبات الدولية المفروضة عليها، حظرا يشمل الطيران، وتقييد حجم البعثات الدبلوماسية في الخارج وحركتها، وتجميد الأموال والمشاريع الليبية غير النفطية في الخارج، واستيراد الاسلحة والمعدات النفطية وقائمة محددة من التقنيات.وتعزل هذه العقوبات ليبيا، سياسياً، وتؤذي تطورها التقني في المجال النفطي والمائي، حيث يحظر عليها استيراد تقنيات مشتركة بين المجالين. وتضعف قدراتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية.ويعاني السودان، منذ نيسان 1996، من عقوبات دولية ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى، وتشمل منع عقد المؤتمرات الدولية على أراضيه، وتقليص بعثاته الدبلوماسية في الخارج، وتقييد حركتها وحركة المسؤولين السودانيين الدولية. وتهدف هذه العقوبات الى عزل السودان سياسياً، مما يهيّئ المناخ للتدخل في شؤونه الداخلية، بل وللاعتداء العسكري عليه، كما حصل في آب 1998، عندما قصفت الطائرات الاميركية مصنعا سودانيا بذريعة كونه قادرا على انتاج مكونات الاسلحة الكيميائية، في إطار ردة فعل انتقامية على تفجير السفارتين الاميركيتين في نيروبي ودار السلام.ومما هو جدير بالانتباه، ان المشترك بين أنماط العقوبات الدولية المفروضة على البلدان الثلاثة، بالرغم من تفاوت قسوتها، هو عزلها دوليا، واعتبارها أهدافا »مشروعة« للاعتداءات العسكرية الاميركية التي تكمّل وتضاعف النتائج المأساوية للعقوبات. وإذا ما نظرنا الى العدوان الاميركي البريطاني على العراق في كانون الاول 1998، لوجدنا انه هدف، بالاضافة الى ما هو معلن من استكمال النشاط العدواني للجنة الأمم المتحدة الخاصة بنزع الاسلحة غير التقليدية العراقية (اليونيسكوم)، الى تدمير قدرات عسكرية تقليدية وبنى تحتية ومنشآت مدنية ومستشفيات ومعدات ومصاف نفطية، ومخازن تموينية، مما يضاعف النتائج التخريبية للحصار الاقتصادي الممتد.هذا، الى ان نظام العقوبات نفسه، وما ينتج عنه من عزل سياسي للبلدان المعنية، سهّل ويسهّل على الولايات المتحدة الاميركية، القيام باعتداءاتها العسكرية، من دون الحاجة الى موافقة دولية ولا حتى الى ذريعة، كما حدث في العراق والسودان، وكما يمكن ان يحدث، في أي وقت، في ليبيا.ان نظام العقوبات يوفّر الإطار السياسي الدولي الملائم للاعتداء على البلدان المعنية، من دون التقيد بأي قيد شرعي.(2)ولكن، ايضا، هناك أشكال اخرى عديدة من الحصار الواقعي الذي تعيشه بلدان عربية عدة من قبل قوى دولية وإقليمية، من دون ان يكون هذا الحصار مكرّساً في »قرارات دولية«.وتعاني سوريا (والى حد ما لبنان) من حصار سياسي وعسكري بالغ الخطورة، حيث لا يؤدي تجميد العملية السلمية على المسار السوري اللبناني، الى تجميد نيل البلدين حقوقهما المشروعة، ولكنه يهددهما، بصورة مستمرة، بالحرب وضرب تطورهما الاقتصادي وما أنجزاه من بنى تحتية وتقنية.وسوريا، التي ما تزال على القائمة الأميركية »للدول المساندة للإرهاب«، تتعرض للحصار المائي والتهديدات العسكرية من قبل تركيا التي صعدت، بصورة غير مسبوقة، خططها العدوانية في تشرين 1998. وساعدها على ذلك، اكتمال بناء الكماشة التركية الاسرائيلية في حلف تشارك فيه الحكومة الأردنية جزئيا.ويحدث هذا بينما ليست لسوريا حرية الحصول على احتياجاتها من الأسلحة من السوق الدولية. ونذكر، هنا، على سبيل المثال فقط، كيف عملت الولايات المتحدة الاميركية كل ما في وسعها لإفشال قيام جنوب افريقيا، في العام 1996 1997، ببيع سوريا نظاما تقنيا ضروريا لتطوير سلاح الدبابات، مما يُعد حصارا واقعيا على واردات الاسلحة، بينما يعاني البلد حصارا جزئيا على صادراته من السلع والخدمات الى الأسواق الدولية، بل وبعض العربية.وهل ننسى ان المناطق الفلسطينية تحولت، عبر اتفاقيات أوسلو 1993 وما تلاها، الى »معازل« محاصرة سياسيا وأمنيا واقتصاديا، في ما يمكننا ان نسمّيه احتلالا مضاعفا ومكرّسا، للأسف، باتفاقيات وتعاهدات »دولية«.ولا تعاني »المناطق الفلسطينية« من سياسة العزل والإغلاق والعقوبات الجماعية، فقط، ولكنها تخضع لحصار مائي واقتصادي وتقني وصناعي وإنتاجي متعدد الأوجه. وأسوأ ما فيه انه مفتوح، فقط، بالاتجاه الاسرائيلي، مما أدى الى ربط المناطق الفلسطينية، تبعيا، بإسرائيل التي تقرر مختلف أوجه الحياة الفلسطينية، وفقا لمتطلباتها ليس السياسية والامنية فقط، بل والاقتصادية، وبالتفاصيل ايضا.وفي مفارقة سياسية، يعاني الأردن، المحسوب، رسمياً، حليفا للولايات المتحدة الاميركية وصديقا حميما لإسرائيل، من حصار جزئي، ولكن خانق، لضمان عدم استخدام العراقيين نفوذهم وشبكتهم الاقتصادية في الأردن لتجاوز الحصار المفروض على العراق. وبينما تمارس الأمم المتحدة والسفارة الاميركية، أشد الضغوط على الادارة الاردنية، للتأكد الدقيق من التزامها بتطبيق العقوبات ضد العراق، تجري مراقبة الحدود الاردنية العراقية، وميناء العقبة بواسطة بعثة شركة »لويدز« البريطانية الخاصة التي قبلت الحكومة الاردنية ان تدفع تكاليفها للقيام، منذ 1994 1995، بالتفتيش عن واردات الاردن وصادراته الى العراق، بدلا من التفتيش المباشر المهين الذي كانت تقوم به البحرية الاميركية »الحليفة« للسفن المتجهة الى ميناء العقبة، في عرض البحر.وإذا ما علمنا ان العراق هو الشريك الاقتصادي الرئيس للأردن، وأن التزام الاخير، تحت المراقبة، بالعقوبات المفروضة على هذا الشريك، يكلفه ما بين خمسمئة مليون ومليار دولار سنويا، تمثل ثلث موازنته العامة، وجدنا ان إجماع البرلمان الاردني، بكل أعضائه واتجاهاته، على اتخاذ قرار (غير ملزم)، في 21/12/1998، برفع الحصار من جانب واحد عن العراق، جاء متأخرا جدا، كما هي حال اعتراف رئيس الوزراء الاردني، فايز الطراونة، تعليقا على المناقشات البرلمانية في اليوم نفسه، بأن »الأردن واقع، أيضا، تحت الحصار«.وكان سعي الاردن، المتصل منذ التوقيع على المعاهدة الاردنية الاسرائيلية العام 1994، لفتح الاسواق الفلسطينية أمام صادراته، للتعويض، ولو جزئيا، عن السوق العراقية، اصطدم، دائما، بالحصار الاسرائيلي المقنّن على المناطق الفلسطينية.هذا، في الوقت الذي يؤدي فيه التزام الحكومة الاردنية الحرفي بممالأة السياسات الاميركية والاسرائيلية، إلى تشديد عزلة الأردن عن محيطه العربي، مما يؤذي، أكثر فأكثر، اقتصاده الراكد، المسدود الآفاق.وليس من دون معنى ان نتحدث عما تتعرض له البلدان الخليجية من حصار سياسي، يمنعها، فعليا، من استعادة اندماجها بالنظام العربي، ومن تقييد غير مكرّس بقرارات دولية ولكنه قائم، على التصرف بمواردها المالية التي أنهكها، كليا، التمويل غير المسبوق في حجمه للوجود العسكري الاميركي (والبريطاني) في الخليج بذريعة حمايته من العراق المحاصر، وأخيرا، من تقييد شامل على القرار النفطي، يضع الثروة النفطية الخليجية تحت التصرف الفعلي للولايات المتحدة الاميركية، بما يخدم مصالحها حتى ضد مصالح الانظمة والعائلات والنخب الحاكمة.(3)وربما تضعنا الحالة الخليجية، تحديدا، في صلب معنى الحصار على العرب، من حيث إنه يمثل، بغض النظر عن حجمه ومداه وكونه، بالأصل، مقننا أو لا، استعادة للاستعمار في شكل نسمّيه، هنا، »ما بعد الاستعمار الجديد«. فإذا كان الاستعمار القديم يقوم على الاحتلال العسكري والادارة المباشرة للبلدان المنكوبة، وإذا كان الاستعمار الجديد، الذي ظهر إبان توازنات الحرب الباردة، يقوم على التتبيع الهيكلي، في الاقتصاد والثقافة والدفاع، للبلدان »المستقلة«، المتمتعة بكل مظاهر »السيادة«، فإن »ما بعد الاستعمار الجديد« يقوم على الدمج بين الشكلين السابقين، دمجا مرنا ومتعدد الأوجه، تتيحه الهيمنة الاميركية المنفردة على عالم ما بعد الحرب الباردة. فالولايات المتحدة الاميركية تستخدم، في آن معاً ومن دون قيود، العمليات العسكرية والوجود العسكري شبه الاحتلالي والعقوبات والنفوذ المباشر والضغوط والهيئات الدولية، وخصوصا مجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والأحلاف الاقليمية والتتبيع الاقتصادي والثقافي والتهديدات، لتأمين مصالحها، غير آخذة بعين الاعتبار مصالح حلفائها وأتباعها او حتى ضرورات إدامة البنى الاجتماعية السياسية التي تشكل القاعدة الداخلية لهيمنتها في بلدان لم تعد هناك اي قيود في التعدي على مظاهر »استقلالها« و»سيادتها«، مثلما كانت الحال في الشكل الاستعماري الجديد، ومن دون أي التزام نحو إدامة وتطور البنى التحتية والهياكل الاقتصادية والخدمات في البلدان الواقعة تحت الحصار، كما كانت الحال في الشكل الاستعماري القديم. »فما بعد الاستعمار الجديد«، هو عملية نهب وهيمنة، متحررة من كل قيد او التزام، مما يحوّلها الى عملية تدميرية شاملة، ومتعارضة موضوعيا مع مصالح مجمل الطبقات الاجتماعية والنخب السياسية المحلية، باستثناء شرائح محددة من الكمبرادور التجاري والكمبرادور السياسي الامني. وتفتقد هذه الشرائح اي صلة بالمشروع الوطني او بضرورات تطور البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الوطنية، ما يجعلها أقرب ما يكون الى طابور خامس.(4)ونلاحظ، هنا، انه اذا كان العرب يتعاملون مع الحصارات المفروضة عليهم، قطريا، فإن سياسة الحصار الاميركية تتعامل مع الوطن العربي بوصفه ميدانا واحدا، فتستخدم الحصار على العراق، لفرض أشكال أخرى من الحصار على الأردن والبلدان الخليجية، بينما تقصف بغداد لتهديد دمشق، وتستفيد من هيمنتها على المنطقة، لتفرض شروطا استسلامية مذلّة على السلطة الفلسطينية، أو لتحييد مصر وإضعاف دورها الاقليمي. ولا ننسى ان الولايات المتحدة بينما تفرض على العرب تشديد الحصار على العراق، تضغط عليهم لإلغاء كل أشكال المقاطعة العربية لإسرائيل، وبينما تعزل بعض العرب عن بعضهم، فإنها تضع كل ثقلها لفرض تطبيع كل أشكال العلاقات بين البلدان العربية وإسرائيل.وهكذا، فإن أول شروط التصدي للحصار الاميركي على العرب هو التحرر من بؤس العزلة القطرية والاقليمية، وإدراك لا جدواها، وعجزها عن تأمين المصالح المحلية. فالبلدان الخليجية، مثلا، لم تنجُ من الآثار المدمرة للحصار المفروض على العراق. وانتهت، مؤخرا، بالرغم من ان مواطنيها ما زالوا يحصلون على الغذاء والدواء والخدمات بصورة ملائمة، الى وضع مشابه، من حيث قدرتها على إدارة مواردها النفطية والمالية، للوضع العراقي.(5)لقد غدا كسر الحصار الشامل المفروض على العرب، اليوم، ضرورة حياة، إذا لم نقل إنه غدا ضرورة وجود، حيث انه تحول، كما كان مخططا له، من »عقوبات مؤقتة« تُفرَض على بلد عربي واحد، (وبموافقة عربية مؤسسة على رفض معظم البلدان العربية للخطوة العراقية في الكويت) الى سياسة اميركية عامة إزاء كل العرب، تهدف الى فرض نمط استعماري مدمّر، قائم على آلية غير مقيدة للنهب والتهميش والأسرلة.