*
«كأنّنا في مطلع القرن العشرين» يقول الفريق محمد الذهبي، مدير الاستخبارات الأردنية المُقال. ويوضح: «الولايات المتحدة تبدأ هجمة جديدة على المنطقة لاسترداد ما خسرته من نفوذ في السنوات الثماني من إدارة جورج بوش. الهجمة مزدوجة: دبلوماسية ديناميكية تستفيد من تحسين صورة أميركا الأوبامية، وعسكرية شرسة من خلال إسرائيل وأوروبا». يتوقف الذهبي ملياً عند العدوان الهمجي على غزة. عدوان يتضمن رسالة تهديد إلى سوريا ولبنان، وهو حظي بمباركة أميركية ـــ أوروبية، وجرى تتويجه بالاتفاقية الأمنية بين ليفني ورايس. الاتفاقية تتجاهل كلياً السيادة الوطنية لأكبر دولة عربية، مصر؛ بينما يتطوع ساركوزي لإرسال بارجة حربية لمراقبة شواطئ غزة، في إطار تنفيذ اتفاقية لم تكن فرنسا طرفاً فيها! السعودية في وضع قلق. ولا يمنح أوباما الأردن أي دور في المنطقة سوى تدريب الشرطة الفلسطينية.
محور الاعتدال العربي تجاهل الأردن، وها هو الغرب يتجاهل المحور كله الآن. فالحسابات مختلفة: واشنطن سوف تسحب قواتها المنهكة من العراق، وتدير الظهر لحلفائها الكبار والصغار، وقد تضغط على إسرائيل جزئياً من أجل إعادة تأهيلها كعصا ثقيلة للمنطقة بدعم ومشاركة أوروبييين.
أظهر العدوان الإسرائيلي على غزة الحجم الفعلي لمحور الاعتدال، بينما أظهرت «حماس» أنها، بإمكاناتها المتواضعة، قادرة على أن تصدّ عن نفسها قرار الإلغاء. وسوريا، على الرغم من كل نقاط ضعفها، في وضع أفضل من شقيقاتها. فهي تحظى بحليفين إقليميين كبيرين، إيران وتركيا، ويمكنها بالتالي، أن تكون أكثر قدرة على مواجهة مصاعب المرحلة المقبلة. لكن المصاعب كبيرة جداً: إسرائيل المدججة بالسلاح لديها بطاقة خضراء للعمل.
بالنسبة إلى الذهبي، الوضع الفلسطيني هو الأسوأ. فالسلطة التي تجري محاولات إنعاشها بصورة مصطنعة، متورطة مع إسرائيل وفاسدة تماماً، وهي مستعدة للتفريط بالحقوق والأرض والعودة مقابل البقاء والامتيازات. وهذا الحكم لم يتوصل إليه الذهبي بالتحليل، بل بالمعلومات والمعطيات والوثائق، غير المتاحة للنشر، ولكنها تصدم المراقب غير المنحاز أكثر بكثير من التحليلات والآراء.
ليس هناك واقعياً أيّ إمكان لحل يتّسم بالحد الأدنى من تلبية الحقوق الفلسطينية. وسواء اتجهت الأمور صوب التجميد، أو تجديد المفاوضات الماراثونية غير الهادفة، أو جرى التوصل إلى صيغة، فإنّ النتيجة واحدة: التوسع الاستيطاني، ومحاصرة الفلسطينيين، وقمع المقاومة والمعارضة، والتهجير.
واقعياً ـــ لا أيديولوجياً ـــ توصّل الذهبي إلى أن كل الطرق القديمة التي اتّبعتها عمّان حتى الآن، عبر واشنطن وتل أبيب والاعتدال العربي، للدفاع عن الدولة الأردنية واستقلالها وهويتها ونظامها السياسي، أصبحت مغلقة، أو أنها تؤدي إلى جدار الوطن البديل.
وبالنظر إلى صعوبة الاستدارة 180 درجة في سياسة الأردن الخارجية، طوّر الذهبي نهج توسيع وتنويع الخيارات السياسية، وخصوصاً من خلال إعادة بناء علاقات الثقة والتعاون مع حركة «حماس» وسوريا والمعارضة اللبنانية وقطر، والتوصل أخيراً إلى مقاربة أردنية مستقلة، ولكنها ليست بالضرورة «محايدة». فمكان الأردن في زحمة القمم حول غزة كان في الدوحة، لا في شرم الشيخ.
علّمتْ الذهبي التجربة الأمنية الطويلة، أن الحفاظ على أمن الدولة لا يتم في المجال الأمني، بل في المجال السياسي ـــ وخصوصاً الداخلي. بل قل إنه طوّر رؤية تقول بالمعالجة الأمنية للأخطار الخارجية ـــ وعلى رأسها الخطر الإسرائيلي ـــ والمعالجة السياسية للخلافات الداخلية. فرغم كل التهديدات وعظمها وشح الموارد والمصاعب الاقتصادية، تبقى حقيقة أن تكوين جبهة داخلية متعاضدة يعدّ دفاعاً لا يمكن هزمه.
الذهبي الذي يُستقبل في البيوتات الأردنية في لقاءات تكريم بعد «استقالته» من منصبه، يعيش حالة فريدة من التقدير بالنسبة إلى مسؤول أمني عامل أو سابق. وهو قادر على إدارة النقاشات، وجسر الخلافات بين الآراء، والتأثير في بلورة رؤية وطنية لتيار واسع. وتأتي قوة تأثيره من أنه، أولاً، دفع ثمن خياراته السياسية، سواء لجهة التنسيق مع «حماس»، أو لجهة اتخاذ القرار الأمني بحرية التعبير الشعبي للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، أو لجهة الانفتاح على القوى الوطنية والإسلامية واليسارية، أو لجهة التصدي للفساد والنهج الليبرالي الاقتصادي.
وتأتي، ثانياً، من كونه توصل إلى برنامجه الإصلاحي الوطني بالتجربة ومن خلال الاطلاع على المعطيات الحساسة في قلب مطبخ القرار. وأخيراً، من خلال تبني أطروحة إصلاحية منسجمة مع المتطلبات الأردنية المعقدة.
بدأ الذهبي مغامرته الفكرية «انطلاقاً من واجب الدفاع عن الدولة والعرش». ولكن التفكير في أفضل السبل للقيام بهذا الواجب، هو الذي قاده إلى أطروحة «استخبارات الدولة، لا دولة الاستخبارات»: لا اعتقالات سياسية ولا إقصاء لشخصية أو تيار ولا منع لرأي أو حزب، بل الحوار الهادف من أجل التوصل إلى مشتركات وطنية. وبناءً على التجربة الناجحة لهذا الأسلوب في السنة الأخيرة من إدارته للجهاز، يرى الذهبي أولوية التشديد على التمسك بالمؤسسات والصلاحيات الدستورية، نصاً وروحاً، وبأولوية القطاع العام ونزاهته وتقيده بالقانون وخضوعه للرقابة والمحاسبة.
فمن دون ذلك، ستظلّ التدخلات الكيفية ومراكز القوى والمصالح والهيئات غير الدستورية (التي تكاثرت ـــ تحت ضغوط أميركية ـــ كالفطر على هامش الحكومة المركزية)، تخرّب أي جهد إصلاحي.
النقطة الثانية هي تحقيق الإجماع الوطني من خلال توسيع عملية الحوار واتخاذ القرار بحيث تشمل جميع القوى والتيارات والشخصيات الوطنية الفاعلة في صيغ سياسية لا تستثني أحداً، وتناقش كل الاستحقاقات بروح الفريق، وتتوصل إلى رؤى وبرامج مشتركة في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدفاعية والثقافية، مثلما تتوصل، بالحوار، إلى تسمية القيادات التي تتمتع بالكفاءة والنزاهة والصدقية لتنفيذ تلك البرامج على جميع المستويات. وسوف تنتهي هذه العملية إلى ما هو أكثر من تأليف حكومة اتحاد وطني، أي إلى تحديد الآلية السياسية لتأليف الحكومات.
يقترح الذهبي، إذن، صيغة أردنية من ديموقراطية توافقية تقوم على التفاهم لا على الصراع السياسي وصناديق الاقتراع. ومن البديهي أن يحظى هذا الاقتراح بتأييد النخبة الأردنية التي لا تعرف تقليد «كسر العظم»، وتفضل دائماً التوصل إلى تفاهمات، بما في ذلك التوصل إلى صيغة برلمانية من دون أغلبيات.
في ظل الظروف العيانية السائدة في الأردن، فإن الأغلبيات البرلمانية الممكنة هي واحدة من ثلاث:1 ــ غالبية إسلامية تستند إلى شبكة أممية وقاعدة محلية ذات لون إقليمي واحد، ولا تملك رؤية ديموقراطية أو برامج اقتصادية واجتماعية وثقافية محلية متبلورة. وستؤدي غالبية كهذه إلى شق المجتمع وإثارة نزاعات داخلية حادة.
2 ــ غالبية من «لوبيات» البزنس المدعومة من الغرب ومن تيار الوطن البديل، والقادرة على تمويل فاحش للحصول على مقاعد برلمانية من دون استحقاق، وهي أغلبية ستقود البلاد نحو حرب أهلية. 3 ــ غالبية مصطنعة أمنياً من المتعاونين والبيروقراطيين والعشائريين تفتقر إلى الاستقلال السياسي والقاعدة الجماهيرية والفعالية، وتنتهي بشلل الحياة البرلمانية، كما هو حاصل الآن. وهكذا، فإن البديل الأفضل هو التفاهم على صيغة للانتخابات العامة تسمح بتمثيل كل القوى الوطنية والاجتماعية والأحزاب والتيارات والمثقفين، بما يؤدي إلى تحويل البرلمان إلى ندوة وطنية للحوار والتسويات وتأليف حكومات الاتحاد الوطني.
يرى العديد من المثقفين الأردنيين أن إقالة الذهبي من منصبه المهم ـــ تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية وداخلية ـــ هي خسارة كبيرة. ولكن، من الجانب الآخر، يمكننا أن نرى في خروج الرجل من مكتبه إلى ميدان النشاط السياسي، بما لديه من تجربة ومعرفة وإرادة، إضافة نوعية للحياة السياسية الأردنية.
* كاتب أردني
ظاهرة أردنيّة: مدير الاستخبارات مواطناً وناشطاً سياسيّاً!
Posted in Uncategorized.