ناهض حتّر
حب الوطن »غريزة «اساسية وعاطفة لا يتغلب عليها الا المنحل، والوطنية من ركائز الايمان العقائدي والفكري. ولم يخلص منها الانبياء وكبار المفكرين الامميين، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب رسالة عالمية، انه حزن واستوحش حين هاجر من مكة الى المدينة، وكانت العودة الى الوطن هاجسه ومحور نضاله العظيم اللاحق. وكان كارل ماركس، فيلسوف الاممية، »المانيا بصورة فريدة«. واما الثائر الملهم، فلاديمير لينين، فقد كانت كنوز الكرملين المعمارية والفنية عنده، تساوي الثورة البلشفية… لقد كان يحب موسكو حتى العظم.
قد يختار المرء مهنته وافكاره ورؤاه ونهج حياته وزوجته واصدقائه، لكنه لا يستطيع ان يختار اباه وامه… ووطنه. ولذلك فان الانتماء ليس فضيلة، بل هو مقام وجداني، لا يمكن شراؤه… او بيعه ولا يمكن ان يختلط بالنفعية بحيث يقيس المرء نسبة عواطفه الوطنية بمقياس المصلحة.
هذه »الثقافة- «المنتشرة هذه الأيام-مدمرة للروح، وبدائية، وساقطة. من المسؤول؟ ليس فقط، مؤسسة الثقافة، ولكن بالاساس ثقافة المؤسسة؟
انا واحد من آلاف الاردنيين الذين لم »يأخذواا« من »الوطن« سوى حليب الام. وهذا اكثر من كافٍ لكي يموت المرء دفاعاً عن الأردن.
وانني لأتألم بقلب محطم لان صورة الاردن، ابتذلت الى هذا الحد، في معارك هؤلاء الذين يبيعون ولاءهم بالقطعة، ويجلسون على حافة المقعد، مهددين، في كل لحظة لا تتحقق فيها مطالبهم الخاصة، بالطلاق!
يا الهي… اهذا هو الاردن؟ اهذا هو الوطن الصغير الذي صنعته القلوب المشتعلة بالعشق الصوفي؟ عرار وغالب هلسا وتيسير سبول ووصفي ويعقوب زيادين وعبد الفتاح تلستان!!! وسواهم من عشاق البلد؟ هل وصلت »الخصخصة« الى »الوطنية الاردنية« فاصبحت سلعة معلبة لها اسعار حسب العرض والطلب؟! اهذه هي نتائج» برنامج التحولات الاجتماعية والاقتصادية«؟ شكرا.
اكاد اكره الكتابة لانها اصبحت »شبهة«، وصار علي ان اثبت لزوجتي طهارة مالي. فالاقلام تشترى بالكمش… والصحافة خرق سود، تجعل من اللص شهيدا، ومن العميل رمزاً! لقد تفشى المال حتى العظم، ونخر الفساد
الارواح، وانتهينا الى النقاش العلني حول السعر العادل للوطنية!!
حقا- ايها السادة. لقد علمني والدي على حساب سجائره، واعطاني نصف لقمته وكل قلبه، فاكتفيت وشكرت. كثير هذا العز. حلوة الحياة في هذا البلد. لم احصل على وظيفة حكومية اطلاقاً. لم اخذ فلساً بغير تعب وعمل ومشقة. اعتقلت وسجنت وحوكمت 17 مرة وضربت حتى الموت، وعندما كتبت لي الحياة-بعد سلسلة من العمليات المعقدة-رأيت من نافذة غرفتي في مستشفى لوزميلا، قبة القصر الاموي على جبل القلعة، فاهتز قلبي، انني ممتن لانني سأعيش اعواماً اخرى في قلب هذه المدينة، بين هؤلاء الاحباء، في صحبة الرفاق، نفكر من اجل الاهل والبلد، ونذود عنه، ونشرب كأسه، ونستعيد لذائذ العيش والذكرى والمحبات، ونحن نذرع شوارع القلب من »البنك المركزي «حتى المسجد الحسيني الكبير.
حسناً-ايها السادة-انا اخذت من الاردن الكثير: القاف الثقيلة والظاد والعنب والتين والمذاق الحريف للجميد.
وانا اعرف، من اللسعة الاولى، مرعاه ومنبته روائح الهيشي والبصل والعرق في ثياب والدي، ما تزال تضج في دمي. اعني انني لست معروضا للبيع.0