يثير الصراع العنيف الدائر في سورية منذ ربيع عام 2011، أزمة أخلاقية لدى المثقفين الجادين. فالعنف الوحشي من كلا طرفيّ الصراع، لا يترك للمثقف سوى فرصة النأي بالذات عن السياسة، للتفجّع على الدم. وسيبدو هذا الموقف الانسحابي أفضل الحلول الأخلاقية، إنما تكمن مشكلته الجوهرية في كون صدقيته تقوم على نبذ أيّ روابط بين ـ ذاتية، بينما هو، وحالما يتم التعبير العلني عنه، يمثّل اقتراحا يتجاوز الذات، أيّ أنه ينخرط توا في السياسة، حيث الانسحاب تورّط صريح في موقف سياسي.في السياسة، هناك أزمة أخرى. فقضية نظام الرئيس بشار الأسد، عنده، واضحة من حيث إنها قضية الدفاع عن سورية موحدة علمانية معادية لإسرائيل، في مواجهة قوى إقليمية ودولية تسعى إلى تفكيك البلد باستخدام عناصر طائفية ورجعية وإرهابية. لكن قضية النظام مشوّشة من حيث أنه، وليس سواه، هو من فتح الثغرة لمتلازمة النيوليبرالية والفساد والاستبداد، تلك التي فككت المجتمع السوري، وفجرت الاحتجاجات الشعبية أصلا. لذلك، يبدو الصراع، من هذه الوجهة، بلا معنى. فالحرب المشتعلة اليوم ضد سورية هي تصعيد لسياسات تبناها النظام نفسه، كاللبرلة الاقتصادية، وإفساح المجال، وبقرار سياسي، لتعظيم مكاسب الفئات الكمبرادورية من وكلاء المصالح الأجنبية ( خصوصا التركية) على حساب المنتجين والعمال المحليين، وتجميع عناصر النفوذ السياسي والاقتصادي في شبكة واحدة، والتركيز على القطاعين العقاري والمالي، وتاليا، تهميش الريف وإفقار جماهير الكادحين.
ولم يتوقف النظام السوري لحظة لمراجعة حقيقة أن القوى الإقليمية التي تخوض اليوم الحرب الضروس ضده، هي القوى نفسها التي عمل على تطوير العلاقات الخاصة معها وعلى رأسها تركيا ـ الطامعة في الهيمنة على سوريةـ وقد واتتها الفرصة مرتين، مرة بحرارة الحب ومرة بحرارة الحرب. وبالنسبة لقَطر، سيكون مدهشا بالنسبة لي ألا تكون دمشق مطلّةً، خلال شهر العسل الطويل مع الدوحة، على صلاتها الإسرائيلية العميقة.
يمكننا القول، بكثير من الثقة، أن دمشق هي التي اختارت المآل الكارثي الحالي بنفسها، مراكمةً الأوهام حول إمكانية جمع التناقضات وإخضاعها. وها هي اليوم، تسعى للتخلّص من تركة النيوليبرالية، بينما يقودها الصراع العنيف الدائر إلى الاصطفاف سياسيا، ونهائيا، في المحور الروسي ـ الصيني. وهي، بذلك، تقترب من توليف جملة الخيارات التي تحافظ على الجمهورية العربية السورية في صيغة منسجمة.
بالمقابل، فإن قضية المعارضة السورية واضحة وبسيطة للغاية، من حيث أنها تريد الإطاحة بنظام مستبد وعنفي في سياق الموجة ‘ الديموقراطية’ في العالم العربي. لكن، كل ما عدا ذلك، يتسم بالغموض الشديد. بطبيعة الحال، هناك نصوص معارضة تتحدث عن ‘دولة مدنية وديموقراطية’، بل إن بعضها يلامس المشكلات الاقتصادية الاجتماعية من منظور شعبي، لكن قوى المعارضة المحاربة الرئيسية، وبسبب عجزها الداخلي وافتقارها لرؤية وطنية اجتماعية مضادّة، لا يعود أمامها سوى التحشيد الطائفي وسوى السلاح والإرهاب. وهنا، تتحوّل، موضوعيا، إلى أداة للقوى الإقليمية والدولية الداعمة، وتغدو، شاءت أم أبت، متحالفة، أو، أقله، متسامحة مع المتحالفين منها مع إسرائيل. ببساطة لا يستطيع المرء ألا يرى أن المعارضة السورية، في ثقلها الرئيسي، قد تحولت إلى قوة معادية لسورية وليس للنظام السوري. وهو ما يمنح الأخير، موضوعيا، موقع ـ وشرف ـ الدفاع عن الوطنية السورية.
ستؤدي هذه المعادلة التي نشأت، رغم أطرافها، إلى تعقيد استثنائي في القضية السورية، بحيث لا يمكن استنساخ النموذج المصري أو اليمني هنا ؛ فالجيش السوري يقاتل دفاعا عن البلد وليس عن نظام فقد شعبيته. أما تنحّي الرئيس الأسد، فلن يكون، هنا، مأثرة ‘ديموقراطية’ منه، ولا مدخلا للتسوية الداخلية، بل سيكون، ببساطة، خيانة صريحة للجمهورية العربية السورية، ولن تقود إلى سلام، بل إلى حرب أهلية مشبعة بالأطراف الثالثة من الإرهاب الأعمى.
كأنها عقدة من التراجيديا الإغريقية؛ فأقدار الصراع لا تسمح مطلقا للأسد بأن يكون رئيسا سابقا يحظى بـ’ممر آمن’ أو بـ’محاكمة عادلة’، بل سيكون رئيسا خائنا. التنحي، في النموذج السوري الراهن، أصبح يساوي الخيانة وتوقيع قرار انفراط البلد. وبهذه المفارقة القَدريّة، يتضح للرائي أنه لا تسوية في سورية إلا بالرئيس الأسد. لكن بوجوده، لن يُكتب النجاح، ولو جزئيا، لاستراتيجية القوى الإقليمية والدولية المعادية، وستخسر المعارضة السورية، المعركة، نهائيا، وتُطوى صفحتها في ملف الجاسوسية. لذلك، لا توجد أسس للتسوية في سورية، والصراع سيستمرّ بلا حل في المدى المنظور.
يدرك الروس هذا التعقيد بدقة وعمق، ولذلك فإنهم، في كل مساعيهم التسووية للصراع في سورية، يرفضون مناقشة تنحّي الأسد، لكنهم يصرون، بالمقابل، على المثابرة على استكشاف فرص التسوية. وهو موقف مسؤول، لكن لا أظنه واهماً، وإنما هو يمثل الشكل الدبلوماسي الملائم لإدارة المعركة على المستوى الدولي.
هنا، نكون قد وصلنا إلى التعقيد الكبير؛ فالصراع في سورية ليس فحسب صراعا متقاطعا مع خطوط الصراع الدولي، وإنما هو محور هذا الصراع المتصاعد الآن. سورية ليست مجرد حليف لموسكو، بل هي قضية أمن قومي لروسيا، وأكثر من ذلك هي قضية المكانة والدور اللذين يخطط الروس لاحتلالهما، بوصفهما ضرورة حياة لوحدة روسيا ونهضتها، في نظام دولي جديد يتشكّل. وفي مضامين تشكّله واتجاهاته، ستتبدى ملامح القرن الحادي والعشرين.
العرب اليوم