ناهض حتّر
ان المشروع الوطني التنموي لا يؤسسه الرأسمال الاجنبي، بل المستثمرون المحليون. وهؤلاء ليسوا فقط من فئة كبار المتمولين – وخصوصاً الكمبرادوريون – وانما قطاع واسع ومعقد من المدخرين، والمجتهدين والمنشطين الاقتصاديين، فضلاً عن شرائح البرجوازية الصغيرة، اي جمهور كبير نسبياً لا بد من دفعه، الى الانخراط في مشروع، فيه من المركزية ما يجعله وطنياً، وفيه من التنوع والتدرج والاختلاف، ما يجعل ادارته مستحيلة بدون ديمقراطية حقيقية.
ان السؤال الرئيسي – وهو سؤال سياسي بامتياز – عما اذا كانت ادارة الاقتصاد الوطني القائمة ملائمة ام لا من وجهة نظر المصالح الوطنية ومصالح الاغلبية الشعبية، هو سؤال مُغيب كليا، بل ان كل مقاربة اجتماعية لهذه الادارة ومنطلقاتها، وآلياتها محددة مسبقاً، طالما ان السياسات الاقتصادية تحولت بالفعل، الى مقدسات وطقوس يمارسها كهنة اخصائيون، هم وحدهم القادرون على فك طلاسمها، ما يدفع جمهرة المثقفين، بالتالي، الى الانسحاب من الحوار الوطني الممنوع – ايضا – بالتابوهات الاخرى التي تمس الوجود والهوية والمستقبل.
والحال هكذا، يبقى السؤال الاقتصادي والاجتماعي، سؤالاً سياسياً مفتوحاً امام النخب السياسية والثقافية والجمهور العريض، من اجل المشاركة الجماعية في قرار وطني يستنفر كل الطاقات الوطنية، فكراً وممارسة.
ان الاسئلة المصيرية التي تتعلق بالدولة الاردنية المعاصرة، تفرض نفسها اليوم كأولوية على الجميع، ولا بد من الاجابة عنها وطنياً، وهي اسئلة تأسيسية تأخذ في اعتبارها الثوابت المرجعية التي انبثقت منها المشروعية التاريخية والاجتماعية والسياسية للدولة الاردنية. وتدور هذه الاسئلة اساساً حول:
هوية الدولة فلا تحقق لدولة بدون هوية وطنية ناجزة ومؤطرة في سياق تاريخي واقعي. فهل يمكن الخروج من حالة شقاء الوعي الوطني المنقسم بين المعيوش السياسي الفعلي والاستيهامات القوموية، الى حالة الوعي «الدنيوي» المنسجم والقائم على الاعتراف غير الملتبس بأن الاردن هو «وطن نهائي» للاردنيين، وهذا لا يمس، حتماً، بالطابع العربي – الاسلامي للهوية الاردنية، ولكنه يحددها في سياق سياسي لا يعود مقبولا معه العيش في وطن معلق على استيهامات ايديولوجية من اي نوع، ولا التطاول على الثوابت الوطنية بحجة انها متغيرات، او مع الحوار حول المتغيرات بحجة انها ثوابت.
الاردن وطن نهائي للاردنيين، يكتشفون ماضيه ويقرأون حاضره، ويرنون الى مستقبله، بصفته تكويناً اجتماعياً وتاريخياً واقعياً، وحقيقة سياسية. هذا هو معنى التاريخية التي بدونها لا معنى لنشاط المثقف النقدي الذي لا يقبل الوقوف مشلولاً امام المحرمات والاقدار والمعوقات. ووفق حقيقة كهذه ينبغي ان يبقى الاردن المأمول هو الدولة التي تنسجم مع عصبيتها التكوينية ومع كتلتها الشعبية الوطنية التي انبنى على كاهلها مشروع هذه الدولة.
اولوية السياسة: فالتكوين الاردني الذي اعترفنا بواقعيته للتو، هو نفسه حقل صراعات اجتماعية، فهو اذن، حقل للنشاط السياسي بصفته فعلاً اجتماعياً وطنياً، وهكذا لا يعود الاقتصاد الوطني وغيره من القضايا، حقولاً فنية لتجارب الكهنة الاخصائيين، بل حقول عامة لصراع المصالح والارادات.
ان للدولة الاردنية اهدافاً وطنية تتمحور حول زيادة الانتاجية وعدالة التوزيع في اطار نهضة تنموية واجتماعية من الضروري مناقشة شروطها وآلياتها دون اطر مسبقة، سواء اكانت ناجمة عن التزامات ازاء صندوق النقد الدولي، او ناجمة عن قناعات ايديولوجية مُسبقة ام لا. المبدأ الاساسي ان ادارة الاقتصاد الوطني هي، بالدرجة الاولى، عملية سياسية، وهي بالتالي، شأن يخص كل القوى الاجتماعية الفاعلة في اتخاذ القرار الوطني الصائب.
ان الاسئلة المصيرية التي سبق ذكرها يجب ان لا تنسينا جملة من الحقائق الصلبة المتشكلة في الدولة الاردنية المعاصرة، وهي حقائق تتطلب عملية تحليلها والتعامل معها، ان يتم فهمها بشكل واضح ودقيق، لانه يتوقف عليها فهمنا للوطن الاردني الذي نريد:
اولاً: ثمة كمبرادور يحمل مشروعه المتمثل بالاندماج بالرأسمالية العالمية، عن طريق الاندماج بالحالة الاسرائىلية الفلسطينية، ويقوم مشروعه على تحويل الاردن الى كانتونات ذاتية وعلى اساس حل المشكلة الفلسطينية في الاردن.
ثانياً: ثمة ايضاً، بالمقابل، القوى الشعبية ومشروعها هو السيطرة الوطنية على مقدرات البلاد، ومقاومة الاختراق الصهيوني، والمحافظة على الكيان الاردني، وعلى عضويته الكاملة في المجموعة العربية، والتحكم في العلاقات الخارجية، على اساس المصلحة الوطنية والقومية. والحفاظ على السيادة ومصالح الاغلبية الشعبية، بصفتها شروطاً غير قابلة للشطب.
ثانياً: بين هاتين القوتين، هناك القوى البرجوازية التقليدية والبيروقراطية والمتوسطة. وهذه ليس لها مشروع، وانما سياسات وتوجهات مبعثرة تعبر عن مصالحها المباشرة. ولذلك، فهي، انتقائية وترتبط بعلاقات مع الكمبرادور ومع القوى الشعبية على حد سواء.
اننا نعيش الفصل قبل الاخير من الصراع الحتمي بين الكمبرادوريين والليبرالين الجدد من جهة، وبين القوى الوطنية الشعبية من جهة اخرى. هذا الصراع هو الذي سيحدد مستقبل الاردن، وحقيقة من سيصنعه في قادم الايام: ابناء الشعب الكادحون الذين حملوا على عاتقهم مشروع الدولة الوطنية، ام الكمبرادوريون ونخبتهم الجديدة، الذين يسعون الى تصفية دور الدولة وفقاً لمصالحهم الخاصة؟.