ناهض حتّر
قرأت كتاب «روسيا بوتين» لمؤلفته ليليا شيفتسوفا «ترجمة بسام شيحا» بشغف دفعة واحدة، متابعا، على مدى اكثر من خمسمئة صفحة، قصة صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من ضابط مخابرات صغير الى زعيم الاتحاد الروسي، الأكثر قوة وشعبية، منذ زمن بعيد.
الكتاب ليس روسياً بالاساس ، بل «أمريكي»، تم انجازه بدعم مؤسسات امريكية بحثية – استخبارية، ابرزها «البرنامج الروسي لمؤسسة كارنيجي» في نيويورك، ومؤلفة الكتاب هي عضو في هذا البرنامج. وهي تنظر الى التطورات الروسية من وجهة نظر استراتيجية امريكية. وهو ما ألقى بظلال التحيز والسطحية على الكتاب.
وما يشغل بال الامريكيين والاوروبيين، هدف رئيسي في روسيا، هو تفكيك الدولة القومية المركزية. وقد يصل هذا الهدف، عند بعض الاوساط الامريكية المحافظة، الى درجة التفكيك القانوني – السياسي، أي تفتيت الاتحاد الروسي فعلاً؛ لكن الاتجاه العام ينحو باتجاه نزع سيطرة الدولة على الاقتصاد والثروات الروسية، واخضاعها، بالكامل، لسيطرة رجال الأعمال الروسيين وشركائهم الاجانب، وتحويل روسيا الى سوق مفتوحة، بلا قيود، امام الرأسمالية العالمية وشطب الدور الاقتصادي – الاجتماعي – الدفاعي للدولة، ومنح الغرب الحق في التدخل في الشؤون الداخلية، وإعادة تنظيم المجتمع الروسي، عبر منظمات التمويل الأجنبي.
ومن الواضح ان فلاديمير بوتين، منذ توليه السلطة في 13/12/،1999 بالعمل بالاتجاه المعاكس للاتجاهات الامريكية والغربية، لقد كان بطيئاً ومناوراً ولكنه مصمم. وها نحن الآن، في 15/12/،2006 نرى بوتين، وقد حقق جزءاً لا يُستهان به من برنامجه.
لم يواجه بوتين، بصورة عقائدية، برنامج الخصخصة، ولكن أعاد تركيبه بالكامل، بحيث حافظ او استعاد سيطرة الدولة المركزية على الحقول الاقتصادية الرئيسية: الطاقة «النفط» والكهرباء والصناعات الثقيلة، بينما سمح باستمرار برنامج الخصخصة في حقول اخرى، وبالمحصلة فقد استرجعت روسيا بناء قطاع عام مسيطر وغني وديناميكي، من دون الاضرار بالقطاع الخاص؛ أي جرى التوصل، فعلياً، الى اقتصاد قوي مختلط.
على المستوى الدفاعي، نشط بوتين صناعة الاسلحة الروسية الشهيرة، وحسن، باضطراد، ميزانيات القوات المسلحة، ومن المنتظر ان يعود الجيش الروسي، مرة اخرى، مرهوب الجانب، بعد فترة من الجمود والتراجع.
وعلى مستوى ادارة الدولة، استرجع بوتين، لقبضة الكرملين، السيطرة على الأقاليم والجمهوريات الاتحادية.
وقد انعكس كل ذلك على سياسة روسية خارجية اكثر حيوية واستقلالاً، وتسعى الى استرجاع – ولو جزء من امجاد روسيا السوفياتية، ومكانتها الدولية كقوة عظمى.
استراتيجياً، ابتعد بوتين عن الولايات المتحدة لصالح اوروبا، وعن الغرب لصالح الصين. وهذه كلها علامات على عودة الوعي ووعي الذات القومية في مطلع الألفية الثالثة. وعما قريب، احسب ان هوية ومكانة روسيا الجديدة، سوف تتكرس، مرة اخرى، باعتبارها قوة اورو – آسيوية وقطباً عالمياً.
في منطقتنا، بدأت روسيا، بعد غيبة طويلة، بالعمل لاستعادة حضورها القديم. لقد وقفت ضد الحرب الامريكية في العراق. وربما يكون هذا البلد هو الميدان الذي سوف تنتقم فيه موسكو لنفسها، مما فعله بها الامريكيون في افغانستان في الثمانينات.
انشأ الروس وعززوا علاقات متعددة المستويات مع ايران، واستعادوا علاقاتهم التقليدية مع سورية، والفلسطينيين «حماس» والوطنيين اللبنانيين. وتفاخر صناعة السلاح الروسية بانها اعادت الكرملين الى الشرق الاوسط، من خلال تفوق الاسلحة الروسية الدفاعية على الاسلحة الامريكية والاسرائيلية في حرب لبنان في تموز – آب الماضيين.
نستطيع ان نحسب بوتين، إذن، قومياً روسياً، ولكنه، بالطبع ليس اشتراكياً، ولا ديمقراطياً -اجتماعياً.. فلا تزال الاغلبية الروسية تئن تحت وطأة المصاعب المعيشية والفقر والتفاوت الاجتماعي الفظيع. ومع ذلك فإن الشعب الروسي يمنح بوتين وسياساته، تأييداً لا محدوداً، ربما، بسبب ما جلبه من استقرار، وربما بسبب المشاعر القومية – بعد عقد كامل من الإذلال- وربما. بسبب الوعي الكامن بأن طريق العودة الى الاشتراكية – في صيغة جديدة – يمر، اجبارياً، في مرحلة إعادة بناء الدولة.
ليليا شيفتسوفا تنظر الى كل تلك الاتجاهات، باعتبارها انحرافات عن الاتجاه المرغوب به غربياً، والذي اطلقه سلفا بوتين، غورباتشوف ويلتسين، وقد هدم الاول الاتحاد السوفياتي، وسلم الثاني، روسيا، الى رجال الاعمال والمافيات ووضعها في موقع التابع العاجز للغرب.
لكن اهمية القصة التي تقدمها شيفتسوفا، تكمن في تصوير الطريق الوعر الذي سلكه بوتين بين الألغام: مناورا مراكز القوى والمافيات ورجال الاعمال واللوبي اليهودي والضغوط الامريكية والمصاعب الاقتصادية.
وتقدم سيفتسوفا قصتها، على الطريقة الامريكية، باعتبارها قصة بوتين- الفرد الموهوب الذي قفز من هامش السلطة، وما لبث ان جمع كل خيوطها بيديه. وهذه نظرة سطحية، لا ترى- الدور الاستراتيجي للاجهزة الامنية والجيش في قصة بوتين، مثلما لا نرى ما هو أهمّ، اعني الثقل الموضوعي للضرورة التاريخية، والتأثير المعقد للرأي العام في توليد القوى التي تستجيب لتلك الضرورة، وتنسجها وتجسدها في صورة بطل فردي.