منطقة خطر
العدد 92
معتز السلطي
“الكلمات، الكلمات، الكلمات”، انها الخيانة بعينها… ومع ذلك، فلا مفرّ من محاولة أخرى لأقول لك شيئاً مما أُعاني: ليست المعاناة شيئاً مؤلماً فحسب، بل ومبهجاً أيضاً. ولذلك، فإنني أعرف سر هذه الدوّامة التي تدور في رأسي الآن: إن رأسي (ذلك المعذَّب والمعذِّب) يكاد أن ينفجر، بل إنه ينفجر بفيض الأمل والحب والخوف والألم… واليأس. تصوّري. انني اعني شيئاً ما عسيراً على البوح؛ ولكن، ربما كان رامبو (الشاعر الفرنسي العظيم لا بطل الفيلم الأمريكي التافه) قادراً على قوله. رامبو، الذي خبر الحياة “بسرعة مدهشة، مات منتحراً، ومخلفاً وراءه هذه الوصية: “الحياة جميلة. إنني أباركُ الحياة. أحسُّني قريباً جداً من ذلك… من ما ياكوفسكي، الفتى الذي انتقل، في دقيقتين، من مواعدةٍ متلهفةٍ لامرأة جاءته كيما تخبره “باي باي” إلى مهاتفة أمه، كيما يخبرها بألمه المضني… إلى الثورة، وبالعكس… الفتى الذي مجّد الثورة، ومات، منتحراً، تاركاً وراءه سيلاً من الاشعار المبتهلة للحياة والاعتزاز والأمل. ربما كان ذلك عصيّاً على الفهم… ولكن لماذا أراد زوربا اليوناني أن يقتل حبه للكرز؟ كان محباً للكرز. الكرز، تصوّري. ومن حبه للكرز، ومن كرهه لذلك الحب، اشترى كمية كبيرة جداً من كرزه العزيز، وشرع يتناوله حتى تقيأ. ومن لحظتها، انتهى الكرز الحبيب بالنسبة إليه. على الأقل، هذا يساعد على مقاربة الأمر: الشغف بالحياة إلى درجة التخلص منها… الحب الى درجة القتل.
انني والعياذ بالله-لا أفكر بالانتحار البتة. ولكنني أقارب نفسي وشوقي الى عناقك، وشوقي إلى الفرار من كل ذلك إلى السهول المشتعلة بالدحنون، وإلى الثورة، وإلى الرهبنة الكاملة. انني كل ذلك. الكتابة-بالنسبة لي-أن أكون قريباً من لحظة البوح المبهجة، قريباً إلى حدّ العذاب والهرب. كل ذلك، كل ذلك معاً. إن روحي قلقة، ولست آسفا أو خائفاً، بل راغباً بانفجار يرج ّحياتنا العفنة، التافهة، الضيقة، المقيدة بالشروط الدنيئة الضرورية لاستمرار الامتيازات والتخلف والتبعية. ليس يشغلني هذا المطلب أو ذاك، بل بَتْر كل الاجزاء السوداء من وعينا. إنني اطمح إلى التحرر الكلي من كل شروط البؤس والعبودية، إلى الجنون الصافي، الجنون الذي هو دواء حياتنا العاقلة المريضة. إنني أكتب محبَّاً. أكتب لانك بعيدة عني. لو كنت بين ذراعيّ، إذن، ما فكرتُ وما كتبتُ ولكنتُ نمتُ… مطمئناً. هل فهمت عليّ؟ الحياة أن تُعاشَ حتى قعر الكأس. حتى بلا قعر. حتى آخر قطرات المحبة التي تغمرني بها عيناكِ.