ذاكرة عمان القديمة

العرب اليوم

ناهض حتر
أصدر الباحث والكاتب محمد رفيع، الجزء الثاني من كتابه «ذاكرة المدينة، اوراق عمان القديمة» وهو قراءة في عقود الايجار العمانية للأعوام 38 – 1946. وقد جاء هذا الجزء الواقع في 525 صفحة، متقناً وخالياً (الى حد كبير) من الاخطاء التي حفل بها الجزء الاول من الكتاب. وأنا سعيد بأن رفيع يتملك ادواته كحفار انثروبولوجي في تاريخ عمان المعاصر، أعني في تاريخ عمان –عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية.
ونشاطات محمد رفيع في التأريخ لعمان وعمارتها وناسها في النصف الاول من القرن الماضي، هي التي –من بين نشاطات وكتابات أخرى-جعلتني أعيد النظر في انتمائي الشخصي الى المدينة التي عشت فيها وشكلت وجداني، طفلاً وشاباً ورجلاً، ولكنني، مع ذلك، بقيت «كلاجئ»، أنتمي الى مدينة والدي (السلط).
انني، ببساطة، احب عمان. وهي مدينتي التي يساعدني محمد رفيع على اكتشاف ذاكرتها، بل قل اكتشاف ذاتي وتجربتي الحياتية فيها. وبهذا المعنى، فإن رفيع هو احد مؤسسي الحزب العماني. فنحن نولد ونربى ونحب ونتعلم ونعرف الحياة والكتب والنساء والاصدقاء والاحزاب والنجاح والفشل في عمان.. ثم ندعي بأننا من السلط او الكرك او نابلس او دمشق او الشيشان. اننا نعاملها كخبز الشعير، نأكلها ونذمها… بل اكثر نستحي منها. وهذا ما تحرر منه محمد رفيع.
عندما تسلمت الكتاب، جلست اليه، ولم اتركه حتى آخر صفحة منه. فرفيع الذي يبحر في عقود الايجار القديمة، بذكاء الباحث الانثروبولوجي الوطني، صنع كتاباً هو مزيج من المادة البحثية والمادة المتخيلة. يأخذ خيوطاً من «الوثائق» وينسج منها قصصاً ليست، بالضرورة، «حقيقية»، ولكنها، بالتأكيد، «واقعية»، بمعنى انها تعكس علامات النسيج الاجتماعي -الثقافي -الوجداني لمدينة عمان، في فترة البحث. ومعظم هذه القصص تصلح للسينما الحديثة، بل ان فيها مشاهد سينمائية مركبة وأخّاذة و«عالمية» بالمعنى الانساني العميق. خذ مثلاً قصة «البيلسان». وفيها ان مصطفى الشنواني لم يعرف ما هو سر الحرص الكبير الذي تبديه مؤجرته السيدة أفنونة على هذه الشجرة المزروعة في ارض الديار. ولم يكن هناك سر، سوى انه يكتشف من بعد علاقته بالمكان. ولم يكن قد رأى روحه تسطع في الوان الشجرة، وهو واقف يتأملها من سفح وادي السرور.
وهكذا معظمنا، لم نكتشف بعد علاقاتنا الروحية الخاصة الشخصية بمدينتنا التي يظهرها محمد رفيع لنا، مثلما يفعل يوسف شاهين بمدينته الاسكندرية. ولعل قصة مدام سراتوش وابنتها يسرا او قصة خضرة اليتيم او قصة حسن عارف، صاحب دكان الموسيقى في شارع وادي السير، لعلها تمنحنا النظر الى تاريخ عمان المعاصر بوصفها مدينة كوزموبوليتية ضاعت منّا، ولكن بقيت ياسمينات منها وبيوت وعائلات… و«محزن» للابداع الادبي والدراما السينمائية.
لكن مداخلات رفيع الابداعية-والتي نرجو ان يعتني بها مخرج ملهم في افلام عمانية -لا تلغي الكتاب بوصفه دراسة انثروبولوجية، ولا تؤذي جهوده التي يمكن استخدامها في ابحاث مختلفة.
***
وانظر: لقد الهم كتاب محمد رفيع، استاذنا الكبير ناصر الدين الاسد، نصاً حيوياً يتذكر فيه طفولته وصباه في عمان الثلاثينيات من القرن العشرين، وضعه مقدمة للكتاب. وأنا آمل ان يحذو شيوخنا الآخرون، حذوه. ولو كتبوا نتفاً وملاحظات، فلعله قد اصبح ضرورياً الآن ان يكون لهذه المدينة ذاكرة مكتوبة.

Posted in Uncategorized.