ناهض حتّر
الـ 300 مليون التي خسرتها خزينة الدولة في صفقة “أمنية” مبلغ جسيم بالمعايير الأردنية. فبهذا المبلغ الذي حصل عليه “مستثمر” في غضون سنة واحدة، كان يمكن عمل الكثير: معالجة الارتفاعات القادمة في اسعار النفط، او تعزيز شبكة امان اجتماعي، او جر مياه الديسي او حتى تحرير الدبلوماسية الاردنية من طلب بعض المساعدات.. الخ.
وانا – مثل اي مواطن اردني – اشعر بالألم والغيظ لهذه الخسارة الفادحة بالنسبة لبلد فقير مأزوم. ومع ذلك، فإن هذه الخسارة تهون إذا استنتجنا منها الدروس الملائمة.
الدرس الاول: أن سياسات واجراءات «تشجيع الاستثمار»، بما فيها من تسهيلات واعفاءات وجور على حقوق الخزينة، اصبحت تحتاج الآن الى مراجعة شاملة، وربما الى شطب معظمها. فالاستثمار في الاردن «منجم ذهب» ولم يعد مقبولاً او معقولاً منحه اي تسهيلات.
الدرس الثاني: ان تلافي الضريبة على الارباح الرأسمالية هو مجرد تفريط بحقوق الخزينة لا معنى ولا ضرورة له. فالـ «300» مليون المتحققة للمستثمر في صفقة امنية، هي ارباح رأسمالية. وفي ظل قانون عادل على ضريبة الدخل، كان على المستثمر ان يدفع 50 بالمئة على الأقل من ارباحه الرأسمالية الى الخزينة، اي حوالي 150 مليوناً. وفي ذلك تعويض معقول للدولة والمجتمع.
الدرس الثالث: ان تولي انصار الليبرالية الجديدة ورجال الأعمال للحقائب الوزارية هو خطر كبير على الاقتصاد الوطني «1» لأنهم يعطون الأولوية للعقيدة الليبرالية على المصالح الفعلية للدولة. «2» لأنهم – بطبيعة تكوينهم – ميّالون الى مصالح المستثمر على حساب خزينة الدولة. فرجل الأعمال، عندهم، له اولوية على الدولة «3» لأنهم غير مقيدين بالاعتبارات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تمنع رجل الدولة التقليدي من الانغماس المغرور في تقرير الحقائق الاقتصادية او «تمرير الصفقات».
الدرس الرابع: ان هناك – في الاخير – فارقا نوعيا بين تحرير السوق وبين الفوضى واللامسؤولية واولوية مصالح رجال الاعمال، المدعمة بالنفوذ السياسي. بالعكس، فان الشروط الاساسية لـ «حرية السوق» هي حرية السياسة ومسؤولية الحكومة امام مجلس نيابي قوي، والنظام، والشفافية، وتعزيز الرقابة البرلمانية والقضائية، وحرية الصحافة….
الدرس الخامس: ان حصاد الليبرالية الاقتصادية – حتى الآن – يتمثل في خسارة صافية للخزينة والمجتمع والوطن لحساب حفنة من رجال الاعمال. ولقد جاء الوقت من اجل وضع حد لهذه العملية الاستنزافية اللاعقلانية.
الدرس السادس: ان الثروات الهائلة السهلة التي يحققها مستثمرون يتمتعون بدعم النفوذ السياسي مقابل الفواتير الضخمة التي يدفعها الفقراء والمتوسطون، هي الاساس في تمزيق الوحدة الوطنية، واضعاف الجبهة الداخلية، وتمكين الاتجاهات المتطرفة من التأثير على عقول وقلوب الاردنيين. وقد حان الوقت للاختيار الحازم بين المصالح الاستثمارية وبين المصالح الوطنية، اذ لا يمكن الحفاظ على وحدة شعب يتعرض للافقار الشديد بينما تثرى اقليته بارقام فلكية.
الدرس السابع: إن ايدلوجية الليبرالية الجديدة سقطت تماما من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية، وهو ما يستلزم دفنها، واعادة الاعتبار للدولة واجهزتها وقيمها ودورها. هذه المرة، بالطبع، في سياق ديمقراطي.
الدرس الثامن: ان الصيغة القائمة الآن من تداخل النفوذ السياسي والبزنس والفوضى الاقتصادية وتأجيل التحولات الديمقراطية، هي صيغة مولدة للفساد، بصورة آلية ومستمرة وكبيرة، بحيث تبدو اجراءات مكافحة الفساد كاريكاتيرية.
الدرس التاسع: صفقة أُمنية تؤكد لنا، مرة اخرى، ان المعارضة السياسية المستغرقة في افكار ونشاطات قوموية، بل وفي الجدل حول الموقف الفقهي من الارهاب، تخدم، في الواقع، استراتيجية الصمت حول التخريب الاقتصادي لليبرالية الجديدة، والافقار، والفساد … الخ، وهو ما يطرح عليها، تواً، اعادة النظر في اولوياتها.
الدرس العاشر: اذا لم يبادر المجلس النيابي الى القيام بواجبه حول المساءلة – حول صفقة امنية – فهو يغامر بصدقيته. والامر نفسه ينطبق على حكومة د. معروف البخيت.