الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية، سيرغي لافروف، ومسؤولون روس آخرون، تكفلوا، تباعا، خلال اليومين الفائتين، بالكشف عن الاتفاق الروسي ـ السوري، في قمة موسكو، في 20 تشرين الأول الحالي. وهو ما يمكن تلخيصه بالتالي:
1 ـ أولوية المعركة ضد التنظيمات الإرهابية، وتقديم المزيد من الدعم للجيش السوري لانجاز مهامه في هذه المعركة؛ 2 ـ الاستعداد لقبول المليشيات السورية الراغبة بمقاتلة الإرهاب، في الخندق السوري ـ الروسي، ودعمها عسكريا، وإشراكها في الحل السياسي، 3 ـ أي في حكومة وطنية موسّعة تشرف على انتخابات نيابية بمشاركة البعث وحلفائه، ورئاسية بمشاركة الرئيس بشار الأسد، 4 ـ تشكيل ائتلاف إقليمي ودولي لإعادة الإعمار.
…
مُدَّ السجاد الأحمر للرئيس السوري في موسكو؛ فغضبت واشنطن للحفاوة الروسية بعدوّها، المطلوب رأسه من قبل عواصم الغرب الامبريالي والرجعية والعثمانيين الجُدد. ليست هذه سخافة أميركية أبدا؛ بل تلخيص لجوهر الحدث التاريخي في عاصمة العالم الجديد: الولايات المتحدة ترى في استقبال طاقم القيادة الروسية، بكامل الأبّهة القيصرية، للأسد، عملا مضادا لعملية ‘الانتقال السياسي’ في سوريا.
نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، ردَّ على النقد الأميركي بكلام قاسٍ: نحن نبذل جهودا استثنائية لمعالجة ‘مشكلة نشأت، في معظمها، نتيجة السياسة الأميركية ضعيفة البصيرة والمغلوطة في الشرق الأوسط’.
وصحح ريابكوف، ضعف البصيرة الأميركية بالتأكيد على أن ‘ الحوار الصريح الذي دار بين الرئيس الروسي ورئيس الجمهورية العربية السورية، المنتخب بصورة شرعية، يحظى بأهمية رئيسية في إيجاد سبل الحل السياسي.’
غير أن سبل الحل ذاك في سوريا، ليست هي نفسها بالنسبة لواشنطن وموسكو؛ الأولى، كما هو الحال بالنسبة لحليفيها السعودي والتركي، ما تزال تتمسك بتنحي الأسد ـ ولو في وقت ما لاحق ـ لأنه قمع وقتل ‘الشعب السوري’؛ والثانية تعتبره الرئيس الشرعي للجمهورية.
هذا التوصيف للخلاف ليس سوى الصورة الحقوقية للصراع الاستراتيجي المحتدم، بين الولايات المتخدة وروسيا الاتحادية، على مصير النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وتاليا مصير النظام العالمي كله؛ لقد تحوّلت رئاسة الأسد إلى محور ذلك الصراع؛ أولا، على المستوى الرمزي، وثانيا، على المستوى العملاني، وثالثا، على المستوى الهيكلي الجامع للنظام السوري.
الرموز، في لحظات الصراع التاريخية، تفيض قيمتها الاستراتيجية عن الأشخاص وعن ضرورات التسوية؛ فالأسد لم يعد شخصا، بل رمزا لمحور كامل، هو محور المقاومة، ورمزا لقوة الأقطاب العالمية الصاعدة في روسيا والصين ومنظومة البريكس، ورمزا لجوهر السياسة الروسية القائمة على مبادئ سيادة القانون الدولي. وهي مبادئ تمنع تغيير الأنظمة بالتدخل الخارجي؛ إنه شأن متروك للشعوب.
وفي حالة الأسد، للشعب السوري الذي يعيش 18,500000من أبنائه في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية. وهو خيار شعبي واضح الدلالة عن اتجاهات السوريين السياسية، بينما يعيش مليونان في المناطق المحتلة من قبل المليشيات ‘ المعتدلة’ و’ المتطرفة’، وأربعة ملايين خارج البلاد. وبين هؤلاء حوالي نصفهم ممن يريدون الاستقرار والأمن في كتف الدولة الوطنية.
الأسد، إذاً، رمز للخيار السياسي لأغلبية الشعب السوري. وهو، وحده ـ كما يلح الرئيس فلاديمير بوتين ـ صاحب الحق في تغيير رئيسه.
لا يحتاج الأسد إلى الرئاسة، بقدر ما تحتاج الجمهورية والمقاومة والعالم المتعدد الأقطاب، إلى وجود الأسد؛ بقاؤه أو رحيله، يحدد مَن هو المنتصر في هذا الصراع المشتعل بين مصالح وبرامج واستراتيجيات متضادة.
فوق ذلك كله، أصبح الأسد رمزا للتعددية الدينية والطائفية في المنطقة كلها، ورمز لحماية المكوّنات المهددة بالمهابدة أو التهجير. وعلى سبيل المثال، إذا رحل الأسد، ستجد كتلة رئيسية من المسيحيين العرب، أنه لم يعد لها مكان في المشرق.
على المستوى العملاني، فإن مجرد النقاش حول بقاء الأسد، يفتّ في عضد الفئات الوطنية السورية التي تشكّل قاعدة الدولة الوطنية؛ فماذا إذا كانت التسوية تقتضي رحيله، ولو بعد حين؟ سوف تنكسر تلك الفئات، وسوف تتشقق وحدة القوى الاجتماعية المساندة للدولة والجيش؛ الجيش نفسه سيكون مهددا بالتقاعس والانشقاقات.
أبعد من ذلك، نعرف، كما يعرف الجميع، أن النَّظْمة السورية ـ لا النظام فقط ـ هي تركيب من عدة قوى وتيارات؛ بعضها يضغط باتجاه إحياء القطاع العام، وبعضها بالعكس، بعضها علماني، وبعضها متدين أو متسامح إزاء تنامي المظاهر الدينية، بعضها يميل إلى توثيق العلاقات مع إيران، وبعضها يجفل من ذلك. وهكذا، يلعب الرئيس، في النظمة السورية القائمة فعلا، دورا رئيسيا في إدارة الخلافات والصراعات، وسط الإجماع على مرجعيته وصلاحياته. ولا يستطيع أحد أن يملأ مكان الرئيس ومكانته، الآن، سوى الأسد. لقد كان ذلك هو استنتاج الاستخبارات الروسية والجيش الروسي، منذ النصف الثاني من التسعينيات؛ فاللمؤسسة الأمنية ـ العسكرية الروسية هي أول مَن بحث مع الرئيس حافظ الأسد، ملف خلافته، وأول مَن اقترح الوريث.
من الدعم بالفيتو والسلاح، والمساعي الدبلوماسية للحل، إلى الحضور العسكري الحاسم في الجبهات، إلى الاستقبال القيصري للرئيس الأسد، أكدت موسكو، وتؤكد، بوضوح شديد، مقاربتها المبنية على عملية انتقال سياسي سلمية تحت سقف الرئيس الشرعي للبلاد؛ فأين هي، إذاً، عناصر المبادرة السياسية الروسية، وما هي حدود المرونة، المتفق عليها في قمة موسكو، تلك التي جرى ابلاغها لزعماء المنطقة، وعواصم الغرب، وعُدَّت أساسا ملائما لانطلاق عملية سياسية جديدة بشأن سوريا؟
أولا، أخرجت قمة موسكو، نهائيا، أي بحث إقليمي أو دولي في مصير الرئاسة السورية. الأسد هو ‘الرئيس الشرعي المنتخَب’، وأبعد تنازل ممكن، في هذا الصدد، هو انتخابات رئاسية مبكرة، بمشاركة الأسد؛ عندها سيقرر الشعب السوري ما يريد. إلا أن أعداء الأسد، قد يقبلون بقاء الرئيس، كأمرٍ واقع، على تجديد شرعيته في انتخابات تحت الرقابة الدولية، سوف يكسبها بالتأكيد؛
ثانيا، لا يمكن أن يحلّ محل الرئيس ـ الذي كان، ليس بمحض المصادفة أو الترتيبات الأمنية، الضيف السوري الوحيد على مائدة الكرملين ـ أيٌ من أركان نظامه. هو، سورياً وروسياً، المفاوض الوحيد. وهو، كذلك، شرعيا ودستوريا وواقعيا.
ثالثا، الرئيس، بعد ذلك، وكما أعلن بوتين، مستعدٌ للحوار مع المعارضة المسلحة على أساس انضمامها إلى محاربة الإرهابيين، وللتفاوض مع الأطراف المعادية والمخاصمة، حول مطالبها وهواجسها والضمانات التي تطلبها، وفقا لأجنداتها الخاصة. وبالمحصلة، فإن اتفاق قمة موسكو، بعث برسالة من بندين، أحدهما مشترك. ويتعلق بالتحالف الجماعي لمحاربة الإرهاب، والقبول بمشاركة فصائل تتبع دولا إقليمية ـ ولا ترتبط بالقاعدة ـ في الجهد العسكري ضد ‘داعش’ و’القاعدة’ ومتفرعاتها ـ والبند الثاني متغير وفقا لدول الضد؛ فمصر ـ التي انتظمت في المقاربة الروسية، تريد دورا قياديا في النظام الإقليمي، والأردن ليست لديه مطالب سياسية، وإنما طيّ الصفحة من دون ذيول، والتنسيق الأمني، وحل مشكلة اللاجئين والمياه والترانزيت؛ وفي المعلومات أن موسكو قدمت لعمان ضمانات سياسية لمشاركتها في التسوية السورية، أدت إلى الإعلان عن اتفاقية تنسيق عسكري وأمني بين الجيشين ، الروسي والأردني، في إطار آلية منتظمة مقرها في العاصمة الأردنية، أوضح الوزير محمد المومني أن هدفها هو ‘ حماية حدود الأردن الشمالية’ من تسلل الإرهابيين.
تركّز الإمارات على تسوية تستبعد الإخوان المسلمين وتيارات الإسلام السياسي، بينما ترى السعودية، الملف السوري، من زاوية واحدة، تتمثل في صراعها مع إيران. وأقصى طموحها، هنا، هو ‘خفض النفوذ الإيراني’ في سوريا، والمقايضة باليمن. وتبدو قطر كحالة نموذجية للازدواجية السياسية بين السر والعلن؛ فبينما تكررت مساعي الدوحة للتوصّل إلى تفاهم ثنائي مع دمشق، رفضه السوريون بإصرار، يهدد وزير خارجيتها، خالد العطية، بالتدخل العسكري في سوريا.
تدرك إسرائيل، اليوم، المخاطر التي يشكلها وجود المقاومة في الجولان، ورغم الحدود التي باتت تفرضها الجيرة الروسية، فإنها تأمل بالوساطة الروسية لتفادي فتح جبهة جديدة على مدى أطول.
تركيا، وحدها، لم تنزل عن الشجرة؛ صحيح أن أجندتها الواقعية تتعلق بالملف الكردي، لكن أحدا لا يريد أن يتعاطى مع هذا المطلب؛ بل ربما تكون نقطة التفاهم الرئيسية بين واشنطن وموسكو ودمشق، هي رعاية نسخة معدلة من المشروع الكردي السوري، سوف يشكل شريطا فاصلا معاديا لتركيا، ومن شأنه أن يطرح القضية الكردية التركية على رأس جدول الأعمال.
لا مكان في المقاربة الروسية حول سوريا لمطامع أو مصالح تركيا أردوغان؛ وإنما عليها أن تتقبل الخسارة، وتنكفئ. وعلى هذا، فمن المنتظر أن تزيد الحكومة الإخوانية التركية، من دعمها للتنظيمات الإرهابية، بالتواطؤ مع الخاسرين الآخرين ـ واشنطن والرياض وقطر. ـ غير أن ذلك لا يغير شيئا من مأزق أردوغان؛ فهذه العواصم الثلاث مدعوة إلى تفاهمات تحقق جزءا من مصالحها في سوريا. وهو ما لا ينطبق على السلطان الذي تبددت أحلامه كلها، وتحولت إلى كوابيس.
تدرك إيران الخامنئي ـ الشريك الإقليمي لروسيا في الحرب على الإرهاب ـ أن واقعية المقاربة الروسية للحل، تفرض نوعا من التراجع في الدور الإيراني في سوريا، مع احتفاظ طهران، بالطبع، بموقعها الضروري كمشارك لا كشريك. ورغم ما تظهره بعض الأصوات الثانوية، فإن طهران لا تعترض على الانسحاب السياسي، طالما أن حضورها الاستراتيجي مكفول باستمرار سياسات دعم المقاومة في دمشق. وفي إطارٍ أوسع، فإن آفاق التعاون الاقتصادي والدفاعي مع موسكو وبكين، أصبحت أكثر أهمية للإيرانيين من اعتراض المقاربة الروسية التي تنظر إلى حزب الله كقوة إقليمية شرعية.
في واقع الحال، تمثّل تركيا عدوا لدودا خطيرا بالنسبة لنصف السوريين، بينما تمثّل إيران هاجسا مقلقا لنصفهم الآخر. وما يقترحه الروس، في العمق، هو انسحاب الطرفين، غير العربيين، من التسوية السورية، لصالح مصر التي قبلت الدور ومقتضياته. ومن الواضح أن هذا المسار نجح في استقطاب الأردن والإمارات، ويمكنه أن يكون منطلقا لجرّ السعودية نحو سياسات واقعية.
وبالنسبة لأوروبا ـ المهددة بموجات اللاجئين، والتغذية الراجعة للإرهاب، ـ والولايات المتحدة ـ التي تظهر المزيد من العجز عن تأمين مصالحها الشرق أوسطية، إلا بالوسائل الإرهابية التي تحوّل المنطقة إلى بركان يهدد الجميع ـ اقترح الرئيس بوتين، في اجتماع نادي فالداي الدولي في سوتشي في 22 تشرن الأول الحالي ـ مبادرة للشراكة الدولية، تقوم على عمليتين مترابطتين هما محاربة الإرهاب، واقتلاع جذوره من خلال إعادة الإعمار والتنمية الاجتماعية والثقافية، في سوريا والشرق الأوسط. وهذه الشراكة مفتوحة لكل الأطراف الإقليمية والدولية، ويمكنها أن تضمن مصالح الجميع.