العرب اليوم
ناهض حتّر
ربما تكون شهادتي مجروحة بالانحياز، الا انني اغامر بالقول ان الذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي الاردني في الاول من ايار المقبل، هي اكثر بكثير من مناسبة تخص الحزبيين او اليساريين. انها عيد وطني.
سندع الخلافات التي تعصف ببقايا هذا الحزب جانباً، بل سندع، جانباً، كل ذلك الركام من المناقشات الايديولوجية و«المسائل الخاصة» بالنادي الحزبي، ونلتفت الى الدور الذي لعبه الاف المناضلين الشيوعيين الاردنيين، عبر خمسين عاماً، من الجهود الحثيثة في مجال تحديث المجتمع الاردني والدولة الاردنية.
وابدأ من البداية: لقد تعامل الشيوعيون على ضفتي النهر مع واقع «ضم» الضفة الغربية للاردن، بعد مأساة 1948 من منظور كفاحي، وطني وتقدمي، فقبلوا صيغة «المملكة الاردنية الهاشمية» بوصفها دولة وحدة واعلنوا بالتالي قيام الحزب الشيوعي الاردني. وكان ذلك، بحد ذاته، مبادرة تاريخية لانشاء الية اندماجية للجماهير الكادحة في القطرين على اسس اجتماعية وفكرية وسياسية واصبح الحزب من الموقع المضاد للنخبة الحاكمة وسياساتها طليعة انموذجية للاندماج الاجتماعي في سياق النضال ضد الامبريالية والصهيونية وقوى الاستبداد والاستغلال. وكانت هذه الاستراتيجية (وهو ما يشكل سر اهميتها) تنبع من وتشتغل في قلب المجتمع والشارع، وتقدم لابناء الضفتين من الكادحين والمثقفين التقدميين، اطارا للعمل السياسي الموحد، ظل صامداً حتى اواخر السبعينات.
لم يتحول الشيوعيون الفلسطينيون في الضفة الغربية عقب هزيمة حزيران 1967، عن ولائهم الاستراتيجي لدولة الوحدة. وبالرغم من ان الاحداث تطورت لاحقاً، الى ان يفرض الانقسام الاردني الفلسطيني نفسه على الشيوعيين ايضا فان التاريخ سيكتب، بمداد الفخار نضالات الشيوعيين الفلسطينيين ضد المشروع الاسرائيلي لاقامة كيان انفصالي عن المملكة في الضفة الغربية المحتلة على اساس الحكم الذاتي.
وجراء عوامل عدة، محلية واقليمية ودولية نمت قوة الحزب الشيوعي الاردني في الخمسينات بصورة ملموسة، واصبح له حضور اجتماعي وفكري وسياسي، يستحق الدرس والتامل. وقد اسهم الحزب بتحديد عناصر البرنامج السياسي للحركة الوطنية الاردنية على اسس واقعية، في توجيه مجمل النضال الوطني نحو اهداف ملموسة، وتحشيد الجماهير حولها، ما سهل تحقيق انتصارات الخمسينات الاردنية (تعريب الجيش والغاء المعاهدة الاردنية البريطانية، واسقاط حلف بغداد، وتاسيس المشاريع الاقتصادية الوطنية الكبرى).
لكن الاهم في تاريخ الحزب الشيوعي الاردني، يظل يكمن بالطبع في دوره التحديثي. لقد ثقف الحزب عشرات الالاف من الشباب الاردنيين بالافكار الاجتماعية والفلسفية والسياسية الحديثة وادخل هولاء في صلب الحوار الفكري العالمي، واذا كان بوصفه حزباً شيوعياً، قد لعب دوراً طليعياً في توطين الفكر الاشتراكي والثقافة التقدمية في البلاد، فانه لعب وبالدرجة الاولى الدور الاساسي في نشر الافكار الديمقراطية والالحاح على الحريات العامة ذات الطابع الليبرالي. وهو شان اهملته الاحزاب القومية والاصولية في الخمسينات والستينات. لقد كان الحزب الشيوعي الأردني، منذ تأسيسه قوة ديمقراطية وليبرالية في المجتمع الاردني، يحصنها تنظيم لينيني لم ينكسر او يتلاشى حتى في اسوأ عهود الاستبداد.
وفي بيان نشاطه الفكري والسياسي، وبدوافع التوسع التنظيمي، لعب الحزب الشيوعي الاردني، الدور الاول في تأسيس المنظمات النقابية العمالية، واسهم الى ذلك، في تعزيز وتطوير المنظمات النقابية المهنية والمنظمات الاجتماعية والجمعيات الخيرية.
ويستحق الشيوعيون الاردنيون، التحية من النساء الاردنيات، للدور الطليعي الذي قاموا به وفي ظروف التخلف المريع لنشر ثقافة المساواة بين الجنسين، وحقوق المرأة محلياً بل ان توجه الحزب الى ضم النساء الى صفوفه، واعطائهن مواقع قيادية، كان مبادأة لها طابع تاريخي في الاردن.
وينبغي الا ننسى ان الحزب الشيوعي الاردني، منح الآلاف من ابناء الفئات الشعبية الكادحة الريفية خصوصاً، فرصة الحصول على الدراسة الجامعية وفي مختلف التخصصات التى كان الاردن بأمس الحاجة اليها. وذلك مـن خلال بعثاته المجانية الى الدول الاشتراكية.
وفضل الحزب في هذا المجال، يعود الى انه عرف كادحين معزولين بالفرص التعليمية المتاحة في المنظومة الاشتراكية، وامن لهم هذه الفرص، وقاد خطاهم اليها وبدونه، ربما لم يكن هؤلاء قادرون على الافادة من هذه الامكانيات، على الأقل حتى اواسط السبعينات.
واهتم الشيوعيون الاردنيون، اهتماماً ملموساً بالنشاطات الادبية والثقافية وقدموا الدعم المعنوي والتنظيمي احياناً للعديد من المبدعين والمثقفين الاردنيين، واسهموا بخبراتهم في مساعدة هؤلاء على تنظيم حقوقهم وبناء مؤسساتهم (واشير هنا، بخاصة الى رابطة الكتاب الاردنيين).
وفي عقد السبعينات، حين لم يكن هنالك حزب اردني واحد شغال، لعب الحزب الشيوعي الاردني، دور الحاضنة السياسية لمئات الشباب الاردنيين الباحثين عن دور سياسي او ثقافي او اجتماعي. وقد انتسب معظم هؤلاء الى الحزب باعتباره الحزب الوطني الديمقراطي الاردني. ولذلك، ليس غريباً ان نشطاء الحركة الوطنية الاردنية الحديثة في التسعينات، كانوا في معظمهم من خريجي الحزب الشيوعي الاردني.
الا ان ما يستطيع الشيوعيون الاردنيون ان يفخروا به دائماً هو دورهم اللامع في عقلنة الفكر السياسي الأردني، ونضالهم الثابت ضد الديماغوجية والتطرف الكلامي والنزعات اللاعقلانية التي ادت بالبلاد الى الوقوع في كوارث تاريخية كالمشاركة في حرب حزيران 1967 والتهييج الاقليمي تحت يافطات ثورية بين 1967-1970 والتي انتهت بكارثة ايلول.
واختم هذا المقال المخصص لتكريم نضال الشيوعيين الاردنيين، بالقول ان تراث الحزب ونضاله وادواره الوطنية التي صنعتها تضحيات آلاف المناضلين وعائلاتهم، ليس ملكاً حصرياً لهذا التنظيم او ذاك بل هو الان بعد ان اصبح الحزب الشيوعي الاردني، ذكرى تاريخية ملكاً للشعب الاردني وللحركة الوطنية الاردنية وللاجيال التى ستجد في ذلك التراث الكثير من الدروس الخصبة والنماذج النضالية والرموز، ما يجعلها اكثر اقداما وعقلانية في النضال من اجل انجاز المشروع الوطني الاردنى اعني تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة في الأردن الحبيب.
خمسينية الحزب… عيد وطني«الشيوعي الأردني»: تحديث المجتمع والدولة
Posted in Uncategorized.