خطوة جريئة

اعلان الديوان الملكي عن اراضي الخزينة المسجلة باسم الملك, خطوة جريئة وذات مغزى عميق. فاذا كان الملك نفسه – وهو, من الناحية الدستورية, غير مسؤول – مستعدا لتقديم كشف حساب, فالاحرى بكل اعضاء نادي الحكم ان يبادروا, طوعيا ووديا, الى تقديم كشوفات الحساب الخاصة بهم. فالجميع الان تحت المساءلة. ولعل خطوة الملك هذه ان تمنحه الحجة اللازمة بتوجيه انذار الى كل المسؤولين في عهده للكشف عن ملفاتهم قبل نهاية 2011 ، او يتم تحويلها, كلها, الى النائب العام مع مطلع السنة الجديدة. وتسريع الاجراءات في هذا المجال, وتزمينها, سوف يساعد, جديا, في استعادة الثقة العامة.
برّر الديوان الملكي, تسجيل اراض باسم الملك, لتسريع التنمية وتخليصها من عقبات البيروقراطية الحكومية. وهذه الحجة التي صاغها النيوليبراليون تنطلق من العداء للدولة وتصويرها بأنها تعرقل التنمية. وقد استخدموا العرش في سبيل القفز عن الدولتيّة في المجال الاقتصادي الاجتماعي, ولتجاوز الحكم الدستوري القاضي بالولاية العامة لمجلس الوزراء. وقد ألحق ذلك افدح الضرر بالملك والدولة والاقتصاد الوطني والمجتمع والثقافة الوطنية. وينبغي الا يمر ذلك من دون محاكمة هؤلاء بجريمة خيانة الملك والدولة قبل محاكمتهم بجرائم الفساد.

علينا الانتباه اولا الى ان التنمية لم تتسرع الا من وجهة نظر الفئات النيوليبرالية والكمبرادورية التي راكمت ثروات ضخمة على حساب تجويف الاقتصاد الوطني وإفقار الاغلبية وحجب التنمية عن المحافظات, وإغراق البلد بمديونية وصلت الى اكثر من 17 مليار دولار وعجز في موازنة متضخمة يتراوح حول ملياري دولار.

ثم علينا ان ننتبه, ثانيا, الى ان ملفات الفساد الكبرى نتجت, تحديدا, عن ادارة الاقتصاد وعمليات الخصخصة والمشاريع الكبرى خارج الاليات الدولتية والدستورية. فالفساد الذي تتيحه هذه الاليات محدود, لكن الادارة الاقتصادية التي تتحكم فيها خلية مغلقة فوق الدولة والدستور والقانون, هي التي تسمح بالفساد الثقيل او بهدر حقوق الخزينة في تفويض وبيع الاراضي الحيوية كما في العبدلي ودابوق والعقبة وعجلون… الخ, او في خصخصة المؤسسات, كما في ملفات شركات التعدين مثلا, او في مشاريع وصفقات الفساد, كما في ‘ برنامج التحول’ و’ موارد’ وترخيص شركة ‘ امنية’ و’سكن كريم’ الى اخره مما لا تسعه هذه المساحة. لكن, يمكننا القول ان كل مشروع كبير وكل صفقة كبيرة ما هما الا ملف فساد.

ثم علينا ان نلاحظ, ثالثا, ان ما حدث من نمو بالاضافة الى كونه مضمخا بالفساد ليس تنمية, وإنما توسع في قطاعات غير منتجة كالقطاع العقاري والمالي وقطاع الاتصالات, وهو لم يولّد فرص عمل للمواطنين, واستجلب,بالمقابل, المزيد من العمالة الوافدة, وأطلق ارتفاعات جهنمية في الاسعار مع جمود الاجور في القطاعات التقليدية, وتناسي الخطط والمشاريع التنموية الشمولية في المحافظات.

وقد ادى ذلك كله, رابعا, الى الحجز على التطور الديمقراطي. فالخلية النيوليبرالية التي تفلتت من القيود الدولية الدستورية والبيروقراطية والحكومية والقانونية, عملت, بكل ما في وسعها, على تجميد المسار الديموقراطي وتزوير الانتخابات وتخريب الحياة السياسية, لكي تضمن غياب المعارضة والرقابة البرلمانية على نشاطاتها في نهب البلد.

وفي ظل هذه الاجواء, تفكك حضور الدولة, وتفككت هيبتها, وخلقت ثقافة الاجتراء على القانون, والبحث عن تحقيق المصالح الفئوية والشخصية, من خلال اللوبيات ومراكز القوى ثم من خلال استخدام العصبيات, ولو كان ذلك على حساب الوطن.

خطا الديوان الملكي, اذاً, خطوة اولى جريئة ومفتاحية, لكنها لا تكفي, على جرأتها, لتصحيح المسار, فالخطوة التالية المطلوبة هي الكشف عن اراضي الخزينة التي تم تفويضها الى ‘ المستثمرين’ من دون جدوى اقتصادية ووطنية ومن دون منافسة, واستعادة هذه الاراضي المهدورة الى ملكية خزينة الدولة, او, اقله,مراجعة عقود الاذعان الموقعة مع شركات النهب.

ليست الاراضي المسجلة باسم الملك هي القضية, بل الاراضي المفوّضة او المباعة والمؤسسات المخصخصة بأسعار رمزية الى ‘المستثمرين’. اعلان كهذا يترافق مع تصويب الوضع في كل الملفات هو الذي يشفي الغليل.

لكن تبقى القضية الكبرى هي قضية النهج الاقتصادي النيوليبرالي, مولّد الفساد والفقر والتحلّل, فقد ان الاوان لكي ننتهي من هذه المرحلة كليا, ونودّع معها اي تطاول من اي نوع على الولاية العامة لمجلس الوزراء, او على اجراءات البيروقراطية الحكومية والرقابة البرلمانية.

(العرب اليوم)

Posted in Uncategorized.