ثورة في أميركا… وفرصة نادرة للهلال الخصيب

*
ظهر محمد حسنين هيكل على شاشة الجزيرة مرتبكاً. فهو كان أكّد استحالة فوز باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة الأميركية. وكان سؤال محمد كريشان مهذباً ولكنه مباشر ومضمونه: لماذا أخطأت التقدير؟
كان على هيكل أن يقول: نعم أخطأت! لم أستطع أن أفهم اللحظة التاريخية، ولم أقدّر أن المجتمع الأميركي، كغيره، يخضع لعوامل التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي. ويبدأ، بناءً على هذا الاعتراف، في مراجعة رؤيته، فيعطي مثلاً، تقديراً أكبر حجماً ونوعاً للاستنزاف الشديد الذي سبّبته حرب العراق لقوة أميركا العسكرية والمالية والمعنوية، أو للأزمة الأخلاقية المتصاعدة حدة لدى الأميركيين بسبب سنوات «الحرب على الإرهاب»، أو لاستحالة النزوع الإمبراطوري لدولة تعاني العجز المالي، أو للحرب الطبقية التي شنّها المحافظون الجدد على أغلبية الشعب الأميركي للحفاظ على الثروات الطائلة للرأسمالية الأميركية المتوحشة وزيادتها، أو لاستحالة الاقتصاد الأيديولوجي القائم على علاقة واهية بين قطاعي المال والعقار، واصطناع طلب وهمي بقروض شعبية لم تكن سوى فخ نصب للفئات الوسطى والعمالية لاستنزافها وإفقارها…
كل ذلك لم يلتفت له هيكل الذي اضطرب (إذ كيف يتقبل كمثقف عربي نموذجي فكرة الاعتراف بالتقصير والخطأ؟) وغرق بالمقابل بالحديث المفصل الممل عن مراحل الحملة الانتخابية و«مفاجأة» الانهيار المالي وضعف الخصم الجمهوري. وهي كلها معطيات متداولة، لم تعد بحاجة إلى أن يكون هيكل موجوداً في الولايات المتحدة أثناء الحملة الانتخابية لكي يزوّدنا برسائل صحافية كما كانت الحال في الخمسينيات.
نسي هيكل ثورة الاتصالات والمعلومات. نسي أنّ متصفّحاً شاباً لمواقع الإنترنت ومشاهداً عادياً للقنوات الفضائية، أصبح يعرف من التفاصيل عن أي حدث في العالم ما يماثل ما يعرفه هيكل. وما يعطي للأخير أية ميزة لا يكمن في التفاصيل، بل في التحليل. وقد أخطأ في التحليل ولم يعتذر، ولم يبذل جهداً لاكتشاف المشكلة المفهومية التي تسببت في ذلك الخطأ.
لكن الحظ والموهبة أسعفا هيكل، بتشبيهات مضطربة هي الأخرى، ولكنها صحيحة من حيث الجوهر، بين مشهد فوز أوباما ومشهد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ ففوز أوباما هو علامة على نهاية مشروع إمبراطوري، لم يعد بإمكان الاقتصاد الأميركي أن يتحمّل تبعاته، كما لم يعد بإمكان المجتمع الأميركي أن يواصل تسديد ثمنه لمصلحة طبقة محدودة العدد، تحقق ثرواتها على حساب الحرب في الخارج والإفقار الجماعي وتدمير الفئات الوسطى في الداخل.
ينبغي التأكيد، مرة أخرى، على أن جذور الأزمة الأميركية تكمن في أزمة الرأسمالية المحكومة بالقانون الماركسي القائل بحتمية الميل إلى انخفاض الربح. وهو «قانون» حاولت الليبرالية المتوحشة كسره عبر حرية السوق المعولم والاقتصاد الافتراضي وتحطيم القيود، بما فيها القيود الفنية، على حركة رأس المال، والتركيز على العرض واصطناع الطلب، وشن الحرب الدائمة. وإذا لم يكن هيكل قد استطاع أن يلاحظ مبكراً انهيار هذه المحاولة، فإنّ المئات من التحليلات «المغمورة» كانت قد قدمت، في أوقات سابقة، تنبّؤات جدية بشأنها.
سآخذ هنا، مثالاً معروف التفاصيل عن رؤية المحافظين الجدد للحرب على العراق. ففي أصل الخطة، كان وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، يعتقد جازماً أنه يمكن تنفيذ المهمة في إعادة بناء العراق كمستعمرة أميركية بعدد محدود من القوات المدعومة من شركات أمنية خاصة. وفي التجربة تبين أن الغزو الأميركي فشل حتى في التحوّل إلى احتلال آمن خلال الفترة من 2003 وحتى 2006، حين بدأ الإقرار بأنه من المستحيل عمل شيء جدّي في العراق من دون تكثيف هائل في عديد القوات الأميركية في ذلك البلد، بالتوازي مع تفاهمات مع الأطراف المحلية.
وقد نجحت هذه الخطة جزئياً ومؤقتاً، لكنها أثبتت أمرين بالغي الأهمية هما:
1ـــ أن نجاح الاحتلال في الحدّ الأدنى، يتطلب تحشيد الإمكانات العسكرية والمالية الأميركية بصورة كثيفة. ولعل ذلك ممكن في جبهة واحدة ولزمن قصير، لكنه غير ممكن في جبهات عدة (حيث مثلاً أفلتت الجبهة الأفغانية) ولا على المدى الطويل. الحرب الدائمة إذاً، بالنسبة لدولة عاجزة مالياً ومدينة بأكثر من ناتجها المحلي الإجمالي، ليست ممكنة. وهذا هو الفشل التاريخي الكبير للمحافظين الجدد الذي لا يعوضه نجاح مؤقت في تدني عمليات العنف، بصورة مصطنعة، في جبهة واحدة هي العراق. فماذا عن الجبهات الأخرى التي اضطرت واشنطن للقبول بالشلل إزاءها، سواء في لبنان أو إيران أو سوريا أو جورجيا أو فنزويلا…
2ـــ أن التصور الأيديولوجي عن إعادة بناء الأمم انهار منذ اليوم الأول في العراق، حيث تبيّن أنّ مجرد الحفاظ على أمن القوات الأميركية يحتاج إلى سلسلة من التفاهمات والتحالفات العلنية والضمنية مع القوى المحلية على الأرض. وهو تناقض يستبعد ضرورة الحرب أصلاً.
لقد حصلت الصين وروسيا على حوالى 20 بالمئة من سوق النفط العالمي منذ 1992 وحتى الآن، من دون أن تطلقا طلقة واحدة، بل عبر تفاهمات مع قوى محلية وبأساليب هي خليط من التجارة والمساعدات والاستثمار. والسرّ وراء ذلك يكمن في حقيقة، هي وجود فائض مالي، بدلاً من العجز والمديونية، لدى البلدين الصاعدين.
ماذا سيفعل أوباما؟ وماذا يمكنه أن يفعل في ظل قيود المصالح والاستراتيجيات التي تحكم المؤسسة الأميركية؟ هل سينقلب على برنامجه الانتخابي؟ هل سيُقتَل؟ هذه الأسئلة، على أهميتها، ليست جوهرية. فالجوهري في الانتخابات الأميركية التي منحت أوباما فوزاً ساحقاً غير مسبوق يكمن في الآتي:
1ـــ الاقتراع الأميركي الكثيف لبرنامج التغيير الذي طرحه أوباما علانية وضمناً: الانسحاب من العراق، وقف الحرب الدائمة (حديثه عن الحرب في أفغانستان كان دعائياً لإسكات النقد اليميني)، والتفاهم مع أعداء الولايات المتحدة وخصومها، خفض الضرائب على الأغلبية الشعبية وزيادتها على الأغنياء، واستخدام الأموال الموفرة من الحرب والضريبة من أجل مشاريع وطنية، خصوصاً في الطاقة البديلة، مشغلة للأيدي العاملة (العودة للاقتصاد الحقيقي بدلاً من الاقتصاد الافتراضي في المشتقات المالية)، والخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية.
هذا البرنامج سوف ينقذ الفقراء وينعش الطبقة الوسطى. وهو مستحيل من دون سياسة خارجية سلمية وتفاهمات واقعية مع القوى الدولية والإقليمية البازغة. وبكلمة، الاعتراف بعالم متعدد الأقطاب، ومرحلة جديدة في التاريخ العالمي.
2ـــ هل سيجرؤ أوباما أو يتمكن من تطبيق هذا البرنامج؟ ليس ذلك هو المهم. فالأساس أن هذا البرنامج قد تبلور فعلاً، وحصل على ما يشبه الإجماع الأميركي. فهو البرنامج الوحيد الواقعي لإنقاذ الولايات المتحدة. ونتيجته تحويل هذه الإمبراطورية الأميركية إلى بلد رأسمالي «أوروبي» يشبه ألمانيا أو فرنسا، بلد ذي طموحات غير كونية، محكوم في بنيته الداخلية، بقوة اشتراكية ـــ ديموقراطية لا يمكن، في النهاية، تجاوزها.
وهذه القوة الاشتراكية ـــ الديموقراطية على النمط الأوروبي نشأت بالفعل، في سياق حملة أوباما التي قامت على تطوّع، غير مسبوق في الولايات المتحدة، شمل حوالى خمسة ملايين شاب وشابة ذوي ميول يسارية صاعدة، وقد انغمسوا خلال ما يقرب السنتين في عمل سياسي يومي تطوعي، وأنشأوا شبكة وطنية من تجمعاتهم ولجانهم وجمعياتهم. وهذه الشبكة ـــ وهي من خارج صفوف الحزب الديموقراطي التقليدي ـــ هي المسؤولة الأولى عن فوز أوباما الكاسح، وهي ستراقبه بصورة حثيثة، وتحاسبه أولاً بأول. وستتحول خيبة أملها منه إلى حزب يساري اجتماعي جماهيري غير مسبوق في الولايات المتحدة، يكون القوة الثالثة لاحقاً.
وفي رأيي أن هذا هو التغير الحاسم والرئيسي في بنية الولايات المتحدة.
لكن ليس من الضروري أن يتخلى أوباما عن كل عناصر برنامجه، منقلباً نحو يمين الوسط. سيحاول بالتأكيد الحفاظ على حزبه «اليساري» الشاب، من خلال سياسات متقلبة ومتدرجة. لكن من سوء حظ الرئيس الأسود أن برنامجه بالذات متكامل ومترابط كالدومينو. الانسحاب من العراق مثلاً ليس ممكناً حسب التدرّج الذي يطرحه أوباما خلال ستة عشر شهراً. فما إن يبدأ الانسحاب حتى تعاود القوى المحلية المناوئة للاحتلال الظهور، وستزداد التدخلات الإقليمية في ذلك البلد. وفي لحظة ما، سيكون على أوباما، ربما بعد سحب نصف القوات، تنفيذ انسحاب شامل وعاجل ونهائي من العراق، لحماية القوات الباقية في ظل تأزم الوضع الداخلي والتدخلات الإقليمية. أو أنه سيستدير 180 درجة لتكثيف القوات والدخول في حرب مع إيران. هكذا، ربما يكون الحل الممكن أمامه تفويض الملف العراقي للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وللتفاهم مع طهران ودمشق.
وإذا كان لا يمكن تنفيذ المشاريع الوطنية الكبرى في الطاقة البديلة وسواها من دون فرض ضريبة تصاعدية على الأغنياء، فإنه من العبث إعادة تنظيم البيت الأميركي من دون وقف سياسات الحرب في الخارج. هنا خيار آخر دراماتيكي. فما إن تبدأ المواجهة الطبقية حتى يصبح التيار الاشتراكي الديموقراطي في أميركا شعبياً وكاسحاً. إن الولايات المتحدة ستكون أمام تكرار سنة 68 الفرنسية.
هل يبقى من معنى بعد كل ذلك لنهج تأييد إسرائيل عنصرية عدوانية في شرق أوسط يريد برنامج أوباما أن يهجر الاعتماد على نفطه؟ هل يستمر التحالف، تالياً، مع السعودية والخليج؟ هل يمكن الإبقاء الاصطناعي على نظام مشلول كالنظام المصري؟ وهل يمكن تصوّر بديل للمركز العربي يتألف من سوريا والأردن و«حماس» ولبنان والعراق المتحرر في الأفق المنظور؟ أسئلة مطروحة للنقاش الآن، ليس من جانب هيكل والفكر العربي الفائت، بل من تيار يساري عربي جديد آن الأوان لولادته في هلال خصيب ربما يمنحه التاريخ فرصة نادرة، من خلال التوحد والتمركز على الذات، والتفاهم ـــ التحالف الندّي مع القوتين الإقليميتين الكبريين في المنطقة: تركيا وإيران. وضع يعيد مصر المريضة والسعودية الرجعية، مرة أخرى، إلى الطرف.
* كاتب أردني

Posted in Uncategorized.