أكثر من أزمة مياه …*****النواب الأردنيون ال17 (من أصل 80 نائبا) الذين تقدموا الأربعاء الماضي بطلب إلغاء المعاهدة الأردنية الإسرائيلية، كانوا يعرفون مسبقا، ان طلبهم هذا سوف يسقط في التصويت. فهناك دائما أغلبية حكومية ميكانيكية في البرلمان الأردني. ومع ذلك فإن هذه المبادرة النيابية ذات دلالات مهمة، ليس على المستوى الرمزي فحسب، وإنما على المستوى السياسي أيضا.ولعل أهم هذه الدلالات وأولها ان أصحاب هذه المبادرة لا يمثلون المعارضة فحسب، وإنما يعبرون، باتجاهاتهم وذواتهم، عن كل ألوان الطيف الأردني، السياسية والاجتماعية (أحزاب المعارضة الاسلامية والقومية والعشائر والمناطق والمخيمات) كالتالي:التيار القومي: خليل حدادين (عمان) ونشأت حمارنة (مادبا) وعايد العضايلة (الكرك) ومحمد العوران (الطفيلة) ومنصور مراد (عمان شركسي).التيار الإسلامي: عبد الله العكايلة (الطفيلة) ومحمد الأزايدة (عشائر مادبا).التيار الوطني الأردني: محمود الخراثبة (السلط) وأحمد عويدي العبادي (عشائر السلط) غازي الفايز (بني صخر) نزيه العمارين (الكرك) خالد الطراونة (الكرك).مستقلون: محمد بني هاني (اربد) حمود الخلايلة (بني حسن).الفلسطينيون: عبد المجيد الأقطش وصالح شعواطة وعدنان عقرباوي.وهكذا نلاحظ ان النواب ال17 هم عينة تمثيلية للمجتمع الأردني. وربما كان ذلك مقصودا في ذاته، بحيث يشكل رسالة سياسية عن تبلور إجماع أردني على رفض المعاهدة الأردنية الإسرائيلية.والدلالة الثانية لهذه المبادرة النيابية الجريئة، يمكننا أن نلاحظها في نص الطلب المقدم الى الحكومة لكي »تتقدم الى المجلس النيابي بمشروع قانون يلغي قانون المعاهدة« حيث لم يقتصر تسبيب مشروع القانون المقترح فقط ب»رفض إسرائيل تزويد الأردن بحصته المائية ما يشكل إخلالا جوهريا بالاتفاقية المائية وخرقا للمبادئ والأعراف الدولية…« ولكن أيضا، لأنه »ثبت« ان المعاهدة الأردنية الإسرائيلية »لم تحقق الأهداف المرجوة من توقيعها ولم توصل الأمة (العربية) والشعب (الأردني) الى أية حقوق أو مكتسبات« بحيث »أصبحنا وكأننا نخدم مصلحة إسرائيل ونحقق أهدافها في مجالات مختلفة« فإذا كان الأصل في التوجه نحو السلام ان يكون »عادلا وشاملا ودائما« فقد تحولت المعاهدة (الأردنية الإسرائيلية) أداة لخدمة وجود وأهداف وأطماع إسرائيل، وسيطرتها على المنطقة وتمكينها من بناء المستوطنات وتوسيعها في الأراضي العربية المحتلة«.وهذه هي المرة الأولى التي يوجّه فيها نواب أردنيون من مختلف الاتجاهات (بما فيها الموالية) نقدا على هذا المستوى من الجذرية لمعاهدة »وادي عربة« ودورها في إخضاع السياسات الأردنية »لخدمة إسرائيل« ما يشير، ربما، الى اتجاه متنامٍ في الحياة السياسية الأردنية، في مرحلة ما بعد الملك حسين، الى المطالبة ليس ب»وقف التطبيع« ولكن بإلغاء المعاهدة، وهو ما كان »محرّما« في الماضي.وقدّم النواب ال17 اقتراحهم بالاستناد الى المادة 95 من الدستور والمادة 96 من النظام الداخلي للبرلمان، وهما مادتان تتيحان لعشرة نواب وأكثر تقديم مشروع قانون »أياً يكن«. ولعل مجرد تقديم هذا الاقتراح تذكير »للجميع« بأن معاهدة »وادي عربة« ليست »بقرة مقدسة« بل مجرد قانون يمكن إلغاؤه بمشروع قانون. وإذا كان ذلك وفقا لموازين القوى السياسية، غير ممكن عمليا الآن على الأقل، فإن التذكير بأنه ممكن دستوريا، وانه في النهاية حق دستوري للمجلس النيابي، مهم سياسيا أقله في معركة الإصلاح السياسي الداخلي.أزمة المياهسقط الاقتراح النيابي بإلغاء »وادي عربة« بالتصويت، ولكن البرلمان »عوّض« عن عدم تبنيه هذا الاقتراح، بإصدار بيان شديد اللهجة حول قرار إسرائيل تخفيض الحصة المائية الأردنية المنصوص عليها في معاهدة دولية تم التوقيع عليها في »عرس« أميركي.ولن نضيف جديدا إذا قلنا إن القرار الإسرائيلي يندرج في إطار الوقاحة السياسية، ويستند حصرا الى غطرسة القوة العسكرية المحض، ولكننا ربما نتلمس الأهم عندما نحدد »الورطة« التي وقع فيها المفاوض الأردني عندما قبل أن يؤسس الاتفاق المائي الأردني الإسرائيلي، لا على الحقوق المنصوص عليها في الشرعية الدولية أو حتى الشروط التقنية ولكن على الوعود السياسية.لقد تنازل الجانب الأردني بموجبه عن كامل الحقوق الأردنية في مياه أعالي نهر الأردن، وهي المخصصة حسب القانون الدولي لإرواء أراضي الزور الأردنية (الشريط الزراعي المحاذي لنهر الأردن على الضفة (الشرقية) وتقدر بمئة مليون متر مكعب من المياه العذبة، وأقرّ لإسرائيل بما يلي:1 كل المياه العذبة من أعالي نهر الأردن حتى طبريا وتقدر ب(574 م.م.م).2 كل مياه الأودية على الضفة الغربية للنهر، وتقدر ب(230 م.م.م) أي ما مجموعه (904 م.م.م) بالاضافة الى3 (25م.م.م) من مياه نهر اليرموك، نص عليها الاتفاق المائي الأردني الإسرائيلي بدون موافقة الطرف الثالث المعني (سوريا).وبالنتيجة أقرّ المفاوض الأردني للإسرائيليين بما بمجموعه (929 م.م.م) أي ما يزيد ب(529 م.م.م) عما قدرته خطة »جونستون« الأميركية في الخمسينيات »حقوقا« مائية لإسرائيل من حوض نهر الأردن.وبمثابة التعويض حصل الجانب الأردني على الحق في »تحلية« كمية من مياه نهر الأردن جنوبي بحيرة طبريا تعطي ما مقداره (60 م.م.م) من المياه الصالحة للاستخدام.وعندما وافق الجانب الأردني على هذه الصيغة وهي بحاجة الى استثمارات باهظة كانت الأحلام الملونة لمشروع »الشرق الأوسط الجديد« في الأجواء، وكان يُظن أن الحصول على التمويل الدولي لمصانع تحلية مياه ملاحات نهر الأردن، ممكن وقريب المنال. وهو ما بددته الأحداث اللاحقة.وقد التزمت إسرائيل ان تزود الأردن الى ان يتم إنشاء مصانع التحلية تلك، ب(30 م.م.م) من المياه »العذبة« سنويا يضاف إليها (20 م.م.م) من المياه التي يخزنها الأردن شتاء في طبريا ويعيد سحبها صيفا، بحيث يكون المجموع (50 م.م.م) من المياه الصالحة للاستخدام (وليس بالضرورة للشرب).وقامت إسرائيل صيف العام الماضي (1998) بضخ هذه الكمية من المياه إلى الأردن، ولكن من نوعية رديئة (مياه صرف صحي معالجة) تسببت في أزمة تلوث مياه الشرب الشهيرة في العاصمة الأردنية في تموز وآب وأيلول من العام الماضي، وقالت اسرائيل عندها إنها ملزمة بتوريد »الكمية« وليس »النوعية«.ولكن إسرائيل تريد هذا العام التخلص من الالتزام كله (من حيث النوع والكم معا) فتقتصر على ضخ (20 م.م.م) فقط أي بالضبط الكمية »الممتازة نوعا« التي يخزنها الأردن في طبريا، ويستردها بدون شروط النوعية.لقد أكدت الحكومة الأردنية انها ترفض المساس بالحقوق الأردنية المائية، ولكن يبدو انها تأخرت سنوات عن هذا الحرص، وربما ان الجدل حوق »نصوص« الاتفاق المائي مع إسرائيل لا يسعفها كثيرا، ما يضع هذا الاتفاق بالضرورة محل إعادة مراجعة (من قبل الجانب الأردني) وما يجعل المبادرة النيابية لإلغاء معاهدة »وادي عربة« كلها ذات مصداقية لا بالمعنى السياسي فقط، ولكن بالمعنى »الفني« أيضا.ناهض حتر