المسألة المطروحة بالغة الجدية؛ فلا تحتمل التعصّب والحنق والحقد والتلاعب، وإنما تفرض نفسها كاستحقاق يتعلّق بجمل مصالح الأردن ودوره في المرحلة المقبلة.
شئتم أم أبيتم؛ أعجبكم ذلك أم لا؛ فإن روسيا تعودُ ـ كقُطبٍ عالميٍ ـ في سوريا، وانطلاقا من سوريا؛ وبينما ينقل جسر جوي وبحري روسي إلى سوريا، منذ مطلع الشهر الحالي وحتى الرابع والعشرين منه، آلاف الأطنان من المعدات والأسلحة، فإن آلاف الضباط والخبراء الروس، كانوا قد بدأوا فعلا بإعادة هيكلة الجيش السوري وتحديثه وتزويده بدبابات ومدافع وشبكات صاروخية ورادرات وطائرات استراتيجية ومقاتلة ومروحيات ومضادات أرضية، لا تتوفر إلا لدى جيوش الدول الكبرى. وتساهم الصين بهذا الجهد التسليحي، أيضا؛ باختصار، يجري تجهيز الجيش السوري كعماد لتحالف دولي وإقليمي للحرب على الإرهاب.
وقبل الرسائل العلنية الإيجابية بين دمشق وموسكو، حول استقدام قوات روسية للمشاركة في القتال مع الجيش السوري ضد االتنظيمات الإرهابية، كان ما لا يقل عن ألف ومايتين ضابط وجندي من قوات المغاوير الروسية، قد هبطوا في القاعدة الروسية الجديدة في حميميم بمحافظة اللاذقية. ومن المنتظر، وصول آلاف المغاوير في الفترة المقبلة.
على الصعيد السياسي، صاغت الدبلوماسية الروسية النشطة، مقاربة واقعية لإنهاء الأزمة السورية، تقوم على استبعاد كل من تركيا وإيران من المعادلة، لصالح مصر. الأميركيون سلّموا بالأمر الواقع؛ وزير دفاعهم اضطر للتنسيق مع وزير الدفاع الروسي حول التنسيق العسكري في سماء سوريا، ووزير خارجيتهم نطق الجوهرة: ليس بالضرورة أن يرحل الرئيس يشار الأسد فورا. ولكن الرئيس سيرحل ذات يوم بالطبع. وحتى ذاك، يخلق الله ما لا تعلمون. في العام 2021 تنتهي ولاية الأسد، وعندها سوف تنعقد انتخابات رئاسية جديدة، يحق للرئيس المشاركة فيها، للحصول على ولاية أخيرة، وفقا للدستور السوري الجديد.
فتحت موسكو، خطوط اتصال بناءة بين سوريا ومصر والإمارات والسعودية، بالإضافة إلى عُمان والكويت، بينما رفضت دمشق، من جانبها،التعامل مع الدوحة. طهران حليفة ، وأنقرة تنكفيء، بمشكلاتها الداخلية، وبفضل التدخل الروسي. وفي الثامن والعشرين من ايلول الحالي، سوف تكون روسيا قد استكملت حضورها العسكري في سوريا، وأنهت مشاوراتها السياسية، وسيعلن رئيسها، فلاديمير بوتين، من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، مبادرة الحل للأزمة السورية على ثلاث مراحل، تبدأ بتوحيد الجهود العسكرية والأمنية للقضاء على داعش والنصرة والتنظيمات الإرهابية الأخرى. في هذه المرحلة، سوف يكون العراق جزءا من ميدان المعركة. ومنذ الآن، حصل السوريون على موافقة الحكومة العراقية للقيام بطلعات جوية فوق الأراضي العراقية، لقصف الإرهابيين.
الرئيس بشار الأسد، إذاً، باقٍ في موقعه، وسيقود الجهد الدولي لمكافحة الإرهاب في سوريا والعراق والمنطقة. ليس ذلك سوى جزء من نتائج صموده؛ فالأكيد أن سوريا ستتحول إلى ورشة للاستثمارات الكبرى ، وخصوصا الروسية والصينية، بأرقام فلكية، والأرجح أن التسوية الدولية الإقليمية، سوف تشمل الجولان، أيضا.
وقضية الجولان، هي القضية الأخيرة الباقية على جدول الأعمال الدولي:
ـ تعتبر سوريا أن اتفاقات فك الارتباط والهدنة ، الموقعة بعد حرب تشرين ، لم تعد قائمة؛ فقد خرقتها إسرائيل، ميدانيا ( بالتدخل العسكري واللوجستي لصالح جبهة النصرة) وسياسيا ( بالتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا)، وقانونيا بخرقها الفظ لبنود تلك الاتفاقات. وعلى هذا، أسست دمشق، بالتعاون مع حزب الله وإيران، شبكة مقاومة شعبية في الجولان، سوف تستعيد تجربة المقاومة اللبنانية، كما اتفقت الأطراف الثلاثة على توحيد جبهتيّ جنوب لبنان وجنوب سوريا، وفق قواعد اشتباك موحدة مع الاحتلال.
ـ ترفض الولايات المتحدة وإسرائيل، هذا المآل، بشدة، وتريدان العودة إلى ستاتيكو ما قبل 2011 في الجولان. وهذه هي النقطة الجوهرية التي ما تزال موضع خلاف في تسوية الملف السوري.
ـ لدى روسيا مقاربة ثالثة؛ فأولا، أبلغ الروس، الإسرائيليين، بقواعد الاشتباك الجديدة في سوريا، محذرين الطيران الإسرائيلي من اختراق الأجواء السورية، لكنهم ، في الوقت نفسه، طمأنوا تل أبيب إلى أن الوجود العسكري الروسي في سوريا، ليس موجها ضدها، وثانيا، من أجل فك عقدة التناقض بين الموقفين السوري ـ الإيراني والإسرائيلي ـ الأميركي، أصبح التوصل إلى تسوية في الجولان ومزارع شبعا، مطروحا، بقوة، على جدول الأعمال، ثالثا، بما أن تجربة المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، كانت تنتهي، دائما، إلى الفشل، فيمكن القفز عن المفاوضات باستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يلزم إسرائيل بالانسحاب إلى حدود 1967، ويُلزم سوريا ولبنان، بإنهاء حالة الحرب، رسميا، مع إسرائيل، من دون مفاوضات أو علاقات دبلوماسية الخ
هذا الاتجاه قد يجد صدى لدى المؤسستين ، الإسرائيلية والأميركية، بالنظر إلى ما يلي:
ـ تجربة المقاومة في جنوب لبنان التي انتهت باضطرار الإسرائيليين للإنسحاب من طرف واحد؛
ـ التحدي الذي تشكله إعادة هيكلة وتسليح الجيش السوري، ورديفه حزب الله؛
ـ تراجع الأهمية العسكرية للجولان، بفضل التطورات الحديثة في مجال الشبكات الصاروخية؛
ـ بالمقابل، يشكل الإنسحاب من طرف واحد من الجولان ومزارع شبعا، بيئة سياسية وقانونية جديدة، تؤدي إلى سحب الشرعية من المقاومة، بقرار دولي.
أدركت روسيا أنه لن تكون هناك مصالحة سورية ـ سعودية، وأن مصر لن تتمكن من لعب دور رئيسي في الملف السوري، إلا بتقليص الوجود الإيراني في سوريا. وهو ما يمكن أن يتحقق بخطوتين، الأولى، الوجود الروسي العسكري الكثيف الذي من شأنه أن يمنع وقوع حرب على الجبهة الشمالية، والثانية، تسوية ملف الجولان ومزارع شبعا.
…
أين الأردن من كل ذلك؟
ـ من حسن الحظ ، أن نلاحظ ما يلي:
أولا، أن مبادرة الرئيس فلاديمير بوتين، لتشكيل حلف مضاد للإرهاب في المنطقة، قد نصت على أن يكون الأردن، طرفا أساسيا في الحلف المنشود؛
ثانيا، أن العلاقات بين موسكو وعمان، ودية وإيجابية؛
ثالثا، أن سوريا لا تعتبر الأردن دولة معادية، وأنها مستعدة للبحث في ترتيب العلاقات الثنائية؛ وفي هذا السياق، أرسل نائب وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في 19 أيلول الحالي على قناة الميادين، رسالة شديدة المودة نحو الأردن، حين حيا ‘ أبناء الأردن وجيش الأردن وعشائر الأردن…’
رابعا، أن التفاهم الروسي ـ الأميركي، يسمح لعمان باتباع سياسات أكثر مرونة في العلاقات مع سوريا؛ كذلك، فإن زيارات رئيس مكتب الأمن القومي السوري، اللواء علي مملوك، إلى كل من جدة والقاهرة، يمنح الأردن، الحق نفسه، بالتواصل مع السوريين، على المستوى نفسه؛
خامسا، إن قرار الرئيس بوتين بالمضي قدما في تنفيذ مشروع المفاعل النووي الأردني، واتجاه الصين إلى الاستثمار الكثيف في الأردن، هما مؤشران على ما يمكن أن يحظى به الأردن من مزايا في حال اتجه إلى اتباع سياسة متوازنة؛
سادسا، الموقف الإيراني الذي ينظر إلى الأردن كمنصة مضادة للانقسام السني ـ الشيعي، وترحيب الإيرانيين بالتعاون الاقتصادي مع المملكة.
ـ ومن سوء الحظ، بالمقابل، أن نلاحظ ما يلي:
أولا، الإفتقار إلى سياسة أردنية مستقلة إزاء الملفات الإقليمية؛ فلم تعلن عمان ، بعد، عن تأييدها للاتفاق النووي بين ايران والمجتمع الدولي؛ على رغم أن السعودية نفسها، باركت هذا الاتفاق، علنا؛ ولم تبادر عمان إلى تغيير سياستها وخطابها نحو سوريا ـ رغم كل ما شهده الملف السوري من تطورات ـ والموقف الأردني من الملف العراقي ملتبس؛
ثانيا، الغياب شبه التام لشؤون السياسة الخارجية ، عن التداول الحكومي أو النيابي أو الإعلامي، وحصرها في دوائر ضيقة، ومشوبة بالسرية؛
ثالثا، الغياب شبه التام لاهتمام النخب بالشؤون الإقليمية والدولية، وغياب النقاش الجدي حول مخاطر وفرص التطورات الحاصلة في هذا المجال، بالنسبة للدولة الأردنية ومستقبلها؛
رابعا، وينشأ عن كل ذلك عدم الالتفات إلى المتغيرات الاستراتيجية الحاصلة في توازن القوى على المستوى الدولي، وتراجع الأحادية الأميركية، وانحدار المكانة الاستراتيجية لإسرائيل، ودول إقليمية أخرى.
خامسا، وهو ما يجعل السياسة الخارجية الأردنية، أسيرة معادلات فائتة.
لدينا، اليوم، فرص جدية لتجديد الدولة الأردنية ، ومكانتها الإقليمية، من خلال ما يلي:
أولا، اتباع سياسات محايدة، والقيام بدور خاص في مكافحة الانقسام المذهبي والطائفي، وتقديم نموذج لمدنية وعلمانية المجتمع؛
ثانيا، المصالحة مع سوريا، و الانخراط الجدي في الحلف الروسي المقترَح للحرب على الإرهاب، واغتنام هذا الانخراط للحصول على معدات وأسلحة حديثة وفعالة للجيش الأردني؛
ثالثا، الدولة المدنية المحايدة سياسيا وثقافيا، من شأنها خلق المناخ لاستدراج كثيف لاستثمارات روسية وصينية وإيرانية ودولية، في مشروعات كبرى كالصخر الزيتي والقطارات وتأسيس عاصمة إدارية جديدة؛
رابعا، تحسين الشروط الأردنية، بما يسمح بالتخلص من أعباء معاهدة وادي عربة، وإعادة صوغ السياسة الأردنية نحو إسرائيل، بما ينسجم مع مصالح الأردن، واستقلاله.